بردة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -! - أحمد علي سليمان

يا ثانيَ اثنين نَعمَ الصِهرُ والسَلفُ
أطريك بالشعر مَمْنوناً ، وأنتصِفُ

مَن ذا يُباريك في عِز وفي نسَب
والناسُ بالنسب العالي لك اعترفوا؟

أمّنْ يُضاهيك في الفضائل اقتصرتْ
عليك وحدك في كل الألى سَلفوا؟

أمّن يُحاكيك في القبيلة اتسَمتْ
بخير وصْفٍ به الأباة كم هتفوا؟

أمن يُساميك في الألقاب قد خلعتْ
عليك في القوم هم لقولها ألفوا؟

مَكيّ من أشرف الأعراب أجمعِهم
وهل على مَجدها الأشاوسُ اختلفوا؟

مِن آل (تَيْم) وهم أماجدٌ صُدُقٌ
قريشُ والتيمُ صِيتٌ كله شَرف

قبيلة أشرقتْ في العُرب سِيرتُها
دُرٌ يُغلفه اللحاءُ والصَدَف

ووالدٌ ضاربٌ فيها بسهم عُلا
ففي الذؤابة مِن أهل الحِجا يقف

(أبو قحافة) في (تيم) كبدر دُجىً
وزادَهُ ألقاً بين الورى الحَنف

ويومَ أسلمَ حاز الفخرَ عن رغب
وحُط عنه الذي قد كان يَقترف

أتى نبيَ الهُدى والرأسُ ثاغمة
والعقلُ مُتزنٌ فما به خَرَف

فقال: هلا أتيتُ الشيخ أرحمهُ
من مُؤنة السير تؤذيهِ وتعتسِف؟

نبينا رحمة للعالمين أتتْ
والصحبُ من بعده القدواتُ والسلف

قال: اخضِبوا الشيبَ صُبوا فوقه كتماً
حتى نراه عن الثغام يَختلف

أما (العتيقُ) فمحبورٌ بوالده
إذ بات بالحق والإسلام يلتحف

والأم (سلمى) خِلالَ الخير قد جَمعتْ
ذي (أم خير) بهذا الإسم تتصف

وعاد داعية في الأهل مُبتشراً
يدعو ويصبر نعمَ الواعظ الألف

فأسلمتْ زوجُه والأهلُ قاطبة
خلفَ (العتيق) جميعُ الأهل قد وقفوا

هذا (أبو بكر) الدنيا توقرُهُ
وليس يبغضه إلا الألى انحرفوا

والغارُ يشهدُ بالمَعية احتفلتْ
بها التراجُمُ والأسفارُ والصحُف

يقولُ: يُبْصرُنا الكفارُ لو نظروا
أقدامُهم ، وأنا واللهِ أرتجف

فقال (أحمدُ) يا صُويحبي لا تخفْ
لن يغلبَ الحقَ ذاك الباطلُ الصلِف

واللهُ يا صاحبي بعِلمه مَعنا
آمنْ بربك لا تعبأ بمن صدِفوا

اثنان نحن ، ورب الناس ثالثنا
لا تخشَ بطشتهم وما له هدِفوا

هذا (أبو بكر) الديارُ تشهده
مُوكَلاً بدياتٍ كالها الجنف

في الجاهلية لم تسقط به دية
بل كان يقضي بها قسراً لمن ضعفوا

وجبهة الشهم للأصنام ما سجدتْ
شأنَ الذين على أصنامهم عكفوا

ولم يكنْ يقتل الأولاد تلبية
لوازع العُرف ، بئسَ الطبعُ والعُرُف

لأن فطرته تأبى مَخارفهم
فجُلّ شُبانهم والشيبِ قد خرفوا

وكان يرحمُ مسكيناً ومبتئساً
طغى عليه الضنا والقهرُ والشظف

وكان يأسى إذا ما شاف أرملة
يود لو صدّ مَن حقوقها اعتسفوا

وكان يُكرمُ أيتاماً ويَكفلهم
وكان يأتي لهم بالشيء هم شغفوا

وأولٌ هو في الرجال قد تبعوا
هَدْي النبي ، وفي حياتهم حَنِفوا

وأولٌ هو في المحبة ارتفعتْ
لأوْجها ، واستمى الودادُ والشغف

وأولٌ هو في الإنفاق ما بذلتْ
كبذله أبداً كفوفُ مَن صرفوا

لم يخش فقراً ولا ضِيقاً ولا عوزاً
ولم يُهدِدْه إملاقٌ ولا تلف

وجاء والدُه للبيت يسبقه
حِرصُ المُفاوض لم يَغمُض له طرف

يقول: هذا عتيقٌ جادَ مُندفعاً
لم يُبق للأهل دُرّاتٍ بهن كُفوا

فأقبلتْ بنتُه (أسماءُ) حاملة
بعضَ الحصى جَمعتْ شَتاته الشعُف

تقول: هذي بقايا المال خلفها
أبي ، فأبشرْ ولا يرُجّك الأسف

فقال: أسعدْتِني ، فلم يعُدْ قلقٌ
ولم يعدْ أرقٌ في القلب أو أفف

وفي (تبوكٍ) أبو بكر يُجهزها
وبُغية العف من إلهه الزلف

إذ جهز الجيشَ تجهيزاً يتيهُ به
كي لا يسود بهذا العالم الغسف

يريدُ نصرَ جنود الله ، يَدْعمهم
فحبذا رغبة وحبذا الهدف

ولم يقلْ عن (تبوكٍ) كم تُكلفني
بل قال: يا حبذا التكليفُ والكُلف

وحَجّ بالصحب في مكان قائدهم
فلم يُصِبه غرورُ النفس والصلف

ووقر الصحبُ حجاً كان قائده
وثمّنوا بذله جداً وما أنفوا

وكان خلّفه النبيُ في مرض
نعمَ الخليفة والتخليفُ والخلف

وجيء بالمصطفى يؤمّ أمته
والصحبُ مِن حُبهم عليه قد عطفوا

أما (العتيقُ) ففوراً عاد خطوته
إلى الورا خلفَ مَن خِلافه وقفوا

فقال (أحمدُ): يا صديقُ أمّ بنا
فلا يكون مِن المِحراب منصرف

أنت الإمامُ فكنْ بالأمر مشتغلاً
والأمرُ جدٌ ، فلا لينٌ ولا طرَف

وكنت أهلاً لِمَا المُختارُ رَشّحه
مِن الإمامة بالتوحيد تلتحف

خليفة لم ترَ الدنيا له شَبهاً
فلا عُلوٌ على الأنام أو ترف

ولا ترَبّحَ مِن وظيفةٍ وُكِلتْ
إليه مثل الألى تُغريهمُ الوُظف

تكليفٌ الأمرُ لا تشريفَ يدمغه
وليس سيفَ أذىً يعلو به الطلف

وبايعَ الكلُ في سِر وفي علن
مِن بعد أن رحلَ النبي ، واختلفوا

بكوا كثيراً على رحيل أسوتهم
وعن حقيقة حُب المُجتبى كشفوا

لكنهم وجدوا صِدّيقهم جبلاً
من الثبات ، يُواسي الدمّ قد نزفوا

مِن بعد أن وقفَ (الفاروق) يُعلنها
وللكلام صَدىً بالبأس يتصف

يقول مختارنا مضى لموعدةٍ
مع المليك ، فلا حزنٌ ولا أسف

وسوف يأتي كما (موسى) الكليمُ أتى
وإن ذا قدرٌ ، وما به صُدَف

ومَن يقلْ مات فالحسامُ مَوعدُه
يموتُ ناسٌ إذا في قولهم هرفوا

بالسيف أحصدُ مَن بانت سخافتُه
ولستُ أسمعُ مَن أقوالهم سخف

فقامَ صِدّيقنا خطيبَ منبره
والعلمُ في قلبه والفقهُ والثقف

حتى يُعالجَ مَن خارتْ عزائمُهم
وشفها الوجدُ والإيلامُ والرجَف

فقال: يا أيها الأقوامُ فاستمعوا
وأنصتوا للذي أقولُ ، واعترفوا

مَن كان يعبدُ في الدنيا (محمدَنا)
فإنه مات ، يا عُبّادُ فانصرفوا

ومَن لرب السما قد عاشَ يعبدُه
وبالإطاعة للرحمن مُتصف

فإن رب السما لا موت يُدركُه
إن الإله عن المخلوق مختلف

نموتُ نحن ، ويبقى الله خالقنا
إني أخاطبُ مَن لانوا أو ارتجفوا

عُودوا لرُشْدِكمُ يا قوم ، واعتدلوا
ولا يُضلنكم زيغ ولا سَرف

أقول أنصحكم ، واللهُ سائلني
وكم عذرتُ الألى في كربهم ضعفوا

بايعتموني على كوني خليفتكم
هل منكمُ أحدٌ عليّ مختلف؟

قلتم: رضينا وإني اليوم في مِحن
ولستُ للأمر أسبيه وأختطف

إما استقمتُ فعوني واجبٌ أبداً
والسيفُ يَقصمني إن كنتُ أنحرف

أسقطتُ كل حقوقي في خلافتكم
والواجبات أنا بها سألتحف

والجيشَ أرسلتُ كي يلقى مُسيلمة
فقد تملكه الغرورُ والصلف

فقال: إني رسولٌ ، فاقتفوا أثري
ودعوة الغِر مثلُ الثلج تَرتكِف

راجتْ وأيّدَها أعتى جلاوذةٍ
مِن الذين سبا عقولهم خرف

وباء بالنصر جيشٌ أنت قائده
وجندُك الشم جيشَ الكفر قد نسفوا

وإن تراهُ ب (أجنادينَ) منتصراً
والجندُ عن عزة الإسلام قد كشفوا

و(مَرْج صُفرنا) بالنصر قد ظفرتْ
على الأعادي الألى بسحْقنا هتفوا

والنصرُ باغت في (اليرموك) مَن دَحروا
جندَ العدا ببطولاتٍ بها عُرفوا

حتى إذا فتحت (شامٌ) و(حِيرتُنا)
وغرّدَ اليُسر في الأصقاع والثطف

الله أكبر يا صِدّيق أمتنا
يا مَن قصيدتنا عنهُ لنا شرف

ابنُ السليمان مَن حتى يُشرّفكم؟
إن صاغ عنكم فأهلوهُ بكم شَرُفوا

أعتقت سبعة أصحاب تريدُ لهم
عيشاً كريماً ففيه الرزقُ والكَنَف

أشفقت لمّا رأيت العبدَ مُنجدلاً
على البطاح ومِنه الدمُ يرتعف

وكنتَ في العلم والإفتاء مدرسة
منها جميعُ الورى والصحب كم رشفوا

وكنتَ أتقى بنص الذكر نقرؤها
و(الليلُ) ليس مدى الأيام ينخسف

كنتَ اغتسلت بليل باردٍ فإذا
بالليل يهديك أسقاماً بها التلف

فمت من بعدها ، والناسُ قد حزنوا
وبالمصيبة فيك الكل قد أسفوا

عُقودَك الست يا صِديقنا انصرمتْ
وجاءك المُنتهى للروح يقتطف

أسلمت روحك للديان عن رغب
وكلنا مِن كؤوس الموت نرتشف

رباه فارضَ عن الصديق ما طلعتْ
شمسٌ ، وبللتِ المَرابعَ النتف

ودمرَ اللهُ مَن يُزري بسيرته
هل الغضنفرُ هل يُزري به نغف؟

يا رب صُنْ عِرضَه من أن يُدنسه
قومٌ كِتابتُهم عنهُ هي القرف

لا يُثبتون الذي يُلقون مِن شُبَهٍ
وعندهم يستوي الطعامُ والعلف

لا نقل قد ظهرتْ لهم أدلته
والعقلُ أودى به التزويرُ والخرف

يغالطون ، ومن يُصغي لذي غلطٍ
ويهرفون بشيءٍ عنه ما عرفوا

أراحك الله يا صديق من بُهُم
قد استوى الثَخْن عند العير والعَجَف

فداك أمي أيا صِدّيقنا وأبي
ما صُوّرتْ في دجى أرحامِها النطف

مناسبة القصيدة

بُردة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه - (معارضة لقصيدة الشاعر العراقي الدكتور عباس الجنابي: الثاني اثنين) (منذ زمن بعيدٍ كتب الشاعرُ العراقي الكبير الدكتور عباس الجنابي قصيدته: (الثاني اثنين) يُطري فيها أبا بكر الصديق – رضي الله عنه -. والتي يقول مطلعها: الثاني اثنين تبجيلاً له نقفُ تعظيمُه شرفٌ ما بعده شرفُ هو الذي نصر المختار أيده مصدقاً حيث ظنوا فيه واختلفوا إلى أن ختمها الدكتور الجنابي بقوله منتصراً للصديق من أعدائه وخصومه: يا سيدي قلتُ: عهدُ الله يُلزمُني من كل أخرقَ سباب سأنتصفُ سأكتُبُ الشعر في الأرحام أزرعُه حتى تُحَدث عن أخبارك النطف إن الكتابة عن الصديق أبي بكر – رضي الله تعالى عنه - شرفٌ كبيرٌ لكاتبها وإن الذود عنه وسله سلاً من ألسنة الحاقدين المُغرضين الكارهين أعدائه ، عبادة من العبادات وشعيرة من الشعائر ، يُثابُ عليها فاعلها! ولقد احتارت الأقلام منذ فجر التاريخ في وصف الصديق وبيان كُنهه وسبر أغوار خصائصه العظيمة ، وكانت عن فضائل ومناقب الصديق أبي بكر مجلدات حوت الأخبار الصادقة المصدقة المحققة! أفلا يقرأ عن حقيقة أبي بكر الأفاكون الكذابون الوضاعون البلهاء السفهاء الذين لا تكف ألسنتهم – أخرسها الله – عن النيل من أبي بكر صباحاً ومساءً؟ إنهم لما خونوا الصحابة حرمهمُ الله تعالى الخير الكثير ، وانطلقوا للتاريخ يجمعون الأخبار والأحاديث الملفقة التي ما صحت أسانيدها فضلاً عن متونها ، وراحوا يتلقفون العلل والأكاذيب والتلفيقات المزورة المفبركة ، وكالوا الدجل والأغاليط والأباطيل عن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وعلى رأسهم الصديق أبو بكر وعمر بن الخطاب ، وزاد الأمر سوءاً وانحطاطاً بأن يسبوا الصحابة ويلعنوهم ، فكانت هذه البُردة الصدّيقية في الانتصار لأبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – ، وهي خطوة على الطريق ، وليست الأولى ، ولن تكون الأخيرة! ولا أزعم لها الكمال بل هو شرف المحاولة ليس إلا!)
© 2024 - موقع الشعر