وهل بعد عيني شيء! (ضحت بعينها لولدها) - أحمد علي سليمان

بالمال كم جاد الغنيُّ على الفقيرْ
ليُعين مسكيناً يئنّ ويستجيرْ

ويشدَ أزر مَن استكان لحاجةٍ
ويُزللَ العقباتِ والحالَ العسير

ويُعينَ أرملة ببعض عطائه
حتى تُعالجَ مُدلهمّاتِ الأمور

ويسد حاجة مَن أتى متسولاً
دفعتْه للتجوال أوضاعٌ تمور

ويعولَ أيتاماً يلوكون الشقا
في عالم فقدَ التراحمَ والشعور

ويُغيثَ ملهوفاً ، ويكرم سائلاً
ويفك - إما شاء - بالمال الأسير

وسواه جاد بمِيرةٍ لمن اشتهى
وبنفسه يسقي ، وأحياناً يَمير

وسواه أعطى عارياً ما يرتدي
من أفخم الأصواف ، أو أغلى الحرير

وسواه يفرشُ بالطنافس بيت مَن
مِن فقره لم يفترشْ غيرَ الحصير

وسواه قد يهدي الحجاب لغادةٍ
لم تلق أموالاً تُجنبها السفور

وسواه آلمه الألى افترشوا الثرى
فأعارَهم مِن غرفة النوم السرير

وسواه جاد - على المريض - بكِليةٍ
ليعيش في كنف الحُبور

وسواه - بالدم - جاد يُنقذ نازفاً
أضحى يُعاني من أذى الجرح البقير

وجميعُهم يرجو من الله الجزا
ويَبيتُ يحلمُ بالمَثوبة والأجور

أما أنا فبذلتُ عيني للذي
طوعاً وكرهاً كم جنى مني الكثير

قالوا: أصيبَ ، ولا حُلول لعينه
سيعيشُ أعورَ بعد ما كان البصير

فسألتُ: أين العين؟ قالوا: جُندلتْ
فبكيتُ - من قلبي - عذاباتِ المصير

فطلبت رؤيته ، فقالوا: غائبٌ
عن وعيه إذ لا يُزار ، ولا يزور

قلتُ: اخلعوا عيني ، وأهدوها له
كيلا يكون ابني شبيهاً بالضرير

قالوا: اهدئي نفساً ، ولا تستعجلي
حتى نراجع ما نقول ، ونستشير

ويقودنا التحليلُ وفق شروطه
وقرارُ جمْع - بالعيون هنا - خبير

قلتُ: ارحموني من مكابدة الأسى
وترفقوا - يا ناس - بالقلب الكسير

بابني فجعتُ ، ألا ترون مصيبتي؟
والدمعُ - مذ وافى بعِلته - بحور

والآهة الثكلى تُحطم خاطري
وأظلّ ثكلى تحت تأنيب الضمير

هيا خذوا عيني تُجَمّل وجهه
لأراه بدراً ساطعاً بين البدور

قالوا: على الإقرار هذا وقِّعِي
حتى نباشرَ ما نجهّز من أمور

وتذرعي بالصبر في هذا البلا
وسلي - لنا - التوفيقَ من رب قدير

فهو اللطيفُ لما يشاء ، وما لنا
مولىً سواه ، ولا معين ولا نصير

ليس الذي نأتي بأمر هيّن
بل - والذى رفع السما - أمرٌ خطير

ونقشتُ الاسم على القراطيس التي
جاؤوا بها ، وقرأتُ من بين السطور

أني سأفقد بعد ذاك حبيبة
أغلى من الدنيا ، وليس لها نظير

وأعيش شوهاء الجبين كئيبة
ويُضيرُني - بين المخاليق - الظهور

لكن ليحيا الابن في أوج الهنا
ويسيرَ مرفوعَ الجبين ، كما الأمير

فزجرتُ أهل الطب ، قلتُ: ألا ابدأوا
فأتوْا إليّ ، وأشفقوا مما يصير

وأنا التفاؤلُ لفني ، وأعارني
ثوباً من الإقدام يغمرُه السرور

حتى إذا فرغوا طرحتُ تساؤلاً
والقلبُ فيه - من الجوى - نذرٌ يسير

ماذا إذا الأقوام لم يتمكنوا
من زرع عيني في الفراغ المستدير؟

ماذا إذا التقدير خان دُعاته؟
هذا هو الضنك المُضمّخ بالثبور

وبقيتُ أهذي دون أي إجابةٍ
حتى أتاني - يحملُ السلوى - بشير

قد زفّ لي بشرى نجاح جراحةٍ
والفضلُ فضلُ الله مولانا الخبير

ففرحتُ بالبشرى ، وسالتْ أدمعِي
وغرقتُ في مرح غزا الدمعَ الغزير

وخرجتُ ، وابني ليس يعرفُ عِلتي
وكشفتُ عن عيني الضمادة والستور

فإذا به استحيا ، وأبدى نفرة
فطفقتُ أوسعه بلوم كالعبير

وأقول: عيني يا بني تقرّحتْ
لمّا تربع - في جوانبها - الذَّرور

حتى تقرّر خلعُها لسلامتي
ما حيلتي؟ والأمرُ لله البصير

فانظر بعينيك الخلائقَ والدنا
ودَع البلاءَ المُستبد المستطير

أنا لم أشأ أن أعْلِم ابني قصتي
كيلا يُفاجأ ، أو يُجادل ، أو يَحور

لكنني أخفيتُ كل حقيقتي
ليعيشَ تحدوه السعادة والحُبور

ولذاك أوصيتُ الأطباءَ الألى
قاموا بخلع العين هذي من شهور

أن يكتموا أمري ، وربّي شاهدٌ
ومُذيعُ سِري ليس – بالتقوى - الجدير

ورأيتُ الابن يسومُني سوء الجزا
ويسبني ، بئس الفتى الوغد الحقير

ويسوق ألفاظاً نأى عنها الحيا
وكأنها كذبٌ وتلفيقٌ وزور

ووعظته حتى يعود لرشده
لكنه استعلى ، وشط به الغُرور

وسعى - على الأرض - اختيالاً مثلما
يسعى مريضُ القلب مُختالاً فخور

حَسْبي مليكُ الناس منك مُعذبي
فهو المجيبُ لمن دعا ، وهو المجير

© 2024 - موقع الشعر