لقيطة ذات نسب - أحمد علي سليمان

الحق فوق الإفك والبهتانِ
لا يختفي بالدس والكتمانِ

مهما اعترتْه مغالطاتٌ جمة
وطغتْ عليه فظاعة الشنآن

ورمتْه بالتوهين ألسنة الورى
وغدا مَلوكاً فوق كل لسان

وتعقبتْه قوى الطواغي غِيلة
وأتتْ له بقرائن ومعاني

وعلاه مرتزقٌ ليصرف نصه
عما حوى من مَعْلم وبيان

وقلاه طبالٌ ليضرب طبله
مستغنياً بعذوبة الألحان

وطغى عليه مُحرِّفٌ مُتملقٌ
ليُزيل عنه نصاعة البرهان

وبغى عليه مغالط ركب الهوى
وكأنه من زمرة القباني

وتزيدتْ فئة عليه بجهلها
بالزور والتزييف والبهتان

وتناولتْ فئة وضوح سطوره
بالطعن والتجريح والنكران

وتجرأتْ أمَة عليه بهزلها
وهوتْ عليه بمعول النقصان

فالحق رغمَ أنوفهم مترفعٌ
هو ليس رهنَ فلانةٍ وفلان

هو لا يموت ، وليس يُخدعُ أهله
فالقوم – بالمرصاد - للطغيان

لا يرعوون لباطل مستنكفٍ
مستكبر متجبر خوان

للحق أهلٌ لا تلينُ قناتُهم
يتصدرون لصولة العدوان

ينفون عنه تجاوزاتِ مَن افترى
متزلفاً – بالإفك - للسلطان

واعجب لقصتنا التي هي آية
من آي مولانا عظيم الشان

والآي تترى ، والدروس جليلة
ومفيدة في عالم الإنسان

تحوي المواعظ للذي تعنو له
ليعالج التشكيك بالرجحان

في ربع قرن قصة وحكاية
سلوى القلوب ونزهة الأذهان

وبرغم شجوى ضمخت أحداثها
وكأنها مُزجت مع الأشجان

هي في (الرياض) تتابعت أحداثها
بين الحدائق في بهي مغاني

أبطالها يا سامعين ثلاثة
ما ضمهم بيتٌ ولو لثوان

زوجٌ وزوجته وبنتٌ أشربت
كأس الضياع ، فمن يكون الجاني؟

الجانيْ جارتهم ، وشرٌ ما أتتْ
ما كان ما جاءته في الحُسبان

أوَهكذا حق الجوار عجوزنا؟
أوَهكذا الإحسانُ للجيران؟

أين الوصية؟ والذي أوصى مضى
لدياره للأهل والخلان

والوعد أين بأن تكوني أختها؟
عجباً لما اتصفت به الأختان

عجباً يسافر قيمُ عن أهله
عاماً ، ويتركها البلاءَ تعاني

عجباً شهورُ الحمل طال مُرورُها
تسعاً كمثل تعاقب الأزمان

عجباً تُلف رضيعة في خِرقةٍ
لتذوق كل مذلةٍ وهوان

ويقول كل الناس: تلك لقيطة
وهي التي قطعاً لها أبوان

أبوان معلومان في هذي الدنا
عبدان للمتكبر المنان

وتغض بينهمُ الجبين تذللاً
كيلا تصَلى في لظى النيران

في محنةٍ لم تدر ما أسبابها
ولحلها – للبنت – ليس يدان

والأم صدّقتِ العجوز ، وسلمتْ
أمر البُنية تلك للرحمن

لمّا تساورْها أثارة ريبةٍ
كي تستبين الأمر باستيقان

والزوج جاء ، فأخبرتْه بما جرى
فاجترّ ما يلقى من الأحزان

مسترجعاً ومحوقلاً ومحولقاً
إخلافها يرجو من الديان

وكأنما هذي العجوز حقيقة
صدقتْ ، وكانت أصدق النسوان

وهي الكذوبة ليس قط كَكِذْبها
لمّا احتفتْ بوساوس الشيطان

كذبتْ على رب الأنام وخلقه
كذباً أضاع معالم العرفان

والله أخلف مَن أضير بجوده
وهمُ الألى عمدوا إلى الشكران

عقدان قد مضيا ، وماتت سيرة
والبنتُ أمست في طوى النسيان

أمست من الماضي الذي هو بائدٌ
والذكرياتُ مضت بكل توان

والأم أعطاها المهيمنُ ما ارتجتْ
بدعائها من طيب الولدان

أما التي ماتت ولم تر أهلها
فالدمع جف ، وذابت العينان

ما حدّها قبرٌ ، ولم تزر البلى
والدود لم يستشر في الجثمان

لكنها تحيا بدون شرافةٍ
والعين ما كفتْ عن الهمَيان

لم تعرف الأم التي قد أنجبتْ
لتخصها بمحبةٍ وحنان

وكذاك لم تعرف أباً يسمو بها
ويخصها بالفضل والإحسان

والوالدان بغيرها انشغلوا ، وطا
بَ معاشُهم في الأهل والبُلدان

عشرون عاماً والحياة تُذيقهم
دفْء القرابة في مناخ هاني

حتى إذا كان الزواج وحفله
دُعيا إليه هما هما الإثنان

وهناك قلبُ الأم هاج حنينه
والعقلُ أعمل فكره بتفان

وتساؤلٌ صدحتْ طيوفُ حروفه
والذكرياتُ جلائلٌ وحواني

يا قوميْ من هذي العروس تكلموا
قالوا: فتاة السلم والإيمان

يا ناسُ قولوا: من أبوها بينكم؟
لم خصَّها في الحفل بالخذلان؟

لمَ لمْ يُباركْ عرسها وزفافها؟
لمَ شحّ بالإطراء والتحنان؟

لمَ لمْ يشارك في احتفال بنائها؟
ليجود بالقبلات والأحضان؟

قالوا: العروسُ لقيطة ، فتحفظي
في القول في سر وفي إعلان

لا تجرحيها ، واستري لا تفضحي
فالسترُ أمرُ الرب ذي السبحان

قالت: ولكني انجذبت لقربها
والبعد عنها ليس بالإمكان

قلبي يحدثني ، يقول: هي ابنتي
هي بَضعة مني وبعضُ كِياني

يا قوم دلوني على من حاطها
برعايةٍ وتكلفٍ وأمان

وهناك أعرف منه صدق مشاعري
رفقاً بقلبي الحائر الولهان

قالوا العجوزة في (الرياض) بها اعتنتْ
فسألتُ: دُلوني على العنوان

فإذا بها يا ليت شعري جارتي
قلتُ: افتقدتكِ في لقا العرسان

قالت: كبرتُ ، وأعجزتْني حيلتي
والعظمُ قاسى شدة الإيهان

قلتُ: البُنية من تكون؟ فصارحي
وتذكري ما كان من أزمان

قالت: لقيطة لستُ أعرف أهلها
ربيتها ، واستشهدي جيراني

قلتُ: ابنتي هذي ، وقولكِ كاذبٌ
هو كالخرافة ، أو عزيف الجان

قالت: دليلكِ. قلتُ: قلبي والحجا
قالت: دليلكِ يا أخية واني

قلتُ: المحاكم بيننا ، فتجهزي
إما اشتكيتُ بقاطع البرهان

قالت: دليلي لا سبيل لنقضه
ودليلُ غيري ثابت البُطلان

فذهبتُ للقاضي لأرفع دعوتي
فسئلتُ: أين أدلتي وبياني؟

فأجبتُ: قلبي وانجذاب عواطفي
نحو الفتاة بغبطةٍ وحنان

فأجاب: محكمتي تريد أدلة
ثبتتْ بلا شكٍ ولا روغان

فحلفتُ أنْ هذي العروس بُنيتي
إني أحس بوازع اطمئنان

فأجاب لا يكفي اليمينُ ، ألا اعقلي
لا تثبتُ الأنسابُ بالأيمان

ولسوف أرسلُ للعجوز رسالة
لتزورنا في الاجتماع الثاني

وأراه جاء بها ، وكانت جلسة
ثم التقى – في الجلسة - الخصمان

وعجوزنا جاءت لنا بأدلةٍ
من كف قاضينا اللبيب دواني

كالشمس في وضَح النهار وضوحها
فهْي الوثائقُ عمرُها عقدان

وأنا خرجتُ من اللقاء بخيبةٍ
غضبى أصارع غصة الخسران

واختار قاضينا النهاية واثقاً
حتى يحقق مبدأ الرجحان

الحامضُ النووي حلٌ ناجعٌ
ليزول شك عالق بجنان

فإذا به ضدي فلم يكُ موجباً
فاهتاج دمعي في لظى أحزاني

فرفعتُ دعوى كي أحقق رغبتي
وإذا بأهل القص في الديوان

قطعوا بأن البنت حقاً إبنتي
والقطع زين بصيغة الحلفان

أما القضاة فأذعنوا لقرارهم
والجزمُ قوّى الميلَ للإذعان

وبنيتي عادت إليّ نسيبة
هي إبنة لفلانةٍ وفلان

أما العجوز فلم تطق حكم القضا
وأصابها طيفٌ من الغشيان

حتى أفاقت صرحت بحقيقةٍ
حبتِ الرجوح لكفة الميزان

وهنالك اعترفت بسرد جريمةٍ
أحداثها عارٌ على الإنسان

غفر المليك لها ، وأصلح شأنها
ما حط قمريٌ على الأفنان

© 2024 - موقع الشعر