دموعٌ لا تجف! (مواساة أمي في عمليتها) - أحمد علي سليمان

مَرائرُ الحزن - في الوجدان - تستشري
والدمعُ كالنهر - من فرط الأسى - يجري

وفي الفؤاد أسى يجتاحُ قدرته
على التحمّل ، حتى ضاق بي صبري

وفي الضمير عذاباتٌ تُسربلني
وكم تساءلتُ ما جُرْمي؟ وما وزري؟

والنفسُ تبكي ، وللآهات صَولتها
والقلبُ يغلي - مِن الآلام - كالقِدر

يا (أم أحمدَ) هذا العيشُ خندمة
بين الهزيمة - في الميدان - والنصر

وتارة مثل بحر لا قرار له
بل يستكين لوَقع المَدّ والجَزر

هيَ الحياة حَلتْ لمن يُداعبُها
وقد تضيقُ فمِن طور إلى طور

ومَن تأمّلها ناغى حقيقتها
ومَن يُكَذبْ بياناتي ليَسْتقْر

لا شيء يبقى على أحواله أبداً
وذاك شأنُ الدنا مِن سالف الدهر

والبعضُ يدري الذي أرويه مِن حِكَمٍ
والبعضُ مِن ثِقل الأعباء لا يدري

هي المقاديرُ تيجانٌ وأوسمة
ونحن بالخير آمنا وبالشر

نفوّض الأمرَ للرحمن خالقِنا
حتى نفوز بما - في الخلد - من خير

وما استوى الناسُ: هذا مؤمنٌ فطِنٌ
وذاك عبدٌ ردئُ الفهم والفِكر

شتان بين الذي يسعى لآخرةٍ
وغافل قلبُه العِصيانَ يستمري

يا (أم أحمدَ) ما طالعتُ آلمنى
فرُحتُ أقرأ ما أتلو ، وأستقري

ماذا أعاينُ مِن بلوى ومِن شجَن
حتى تهاديت بين الصدق والهتر

وقلتُ: علّ الذي خطتْ بُنيَّتكم
مَحضُ افتراءٍ ، فما في النص من خُبر

وعُدتُ أقرأ ما في النص مِن خَبَر
فتهتُ في التو بين السطر والسطر

وانساب دمعى على الخدين منهمراً
كالمَوج تدفعُه نسائمُ البحر

ولم تجفَ دموعٌ في مَحاجرها
لمَا تكابدُ نفسُ المرء مِن قهر

لا شيء أملكه سوى الدموع ، بها
أدعو المليك لمن تلتاعُ في مصر

وأستعينُ بها على مؤاخذةٍ
تجيشُ مثل لظى التنور في صدري

يا (أم أحمدَ) رقي ، واغفري زللي
وأنتِ أكرمُ مَن أرجو ، وأستبري

إني اغتربتُ - عن الأوطان - عن رَغمٍ
وعِشتُ ما عشت بين القيد والأسر

إمّا تحرّكتُ عينُ الشر ترقبني
إن النفاق هنا - في القوم - يستشري

وإن تكلمتُ فالجسَّاسُ يسمعني
وإنْ كتبتُ سطا الباغي على سِفري

وإن ظفرتُ بأموال دفعتُ بها
لصاحب المَكس حتى مَلني فقري

وإن شكوتُ بلاءاتٍ تجندلني
عُوقبتُ بالصدّ والإقصاء والغدر

في غربةٍ شرقتْ بما أدينُ به
فجابهتني بكيل الدسّ والمَكر

وكم ذكرتكِ في نعمى بُلهنيةٍ
وصحةٍ تحتفي بالفرْح والبشْر

تستروحين أريجَ العِز في ثِقةٍ
والقولُ مُنتظمُ الألفاظ كالشعر

وقد تجوبين أرض النجع ماشية
وما اشتكتْ قدَمٌ مِن وَطاة السير

وللشباب دلالاتٌ سعِدتِ بها
حيناً من الدهر ، ما قاسيتِ من ضر

ربيتِ جيلاً له - في البأس - تجربة
وكم وضعتِ - عن الأولاد - مِن إصر

وما بخلتِ - بما لديكِ - مِن مِنح
أحلى مِن الشهد ، بل أغلى من الدُر

وكم مَخرتِ عُباب العيش عازمة
على التحدي بلا خوف ولا ذعر

وكم نصحتِ بتعبيراتِ واعظةٍ
تهدي الكلام أكاليلاً من الزهر

وكم بذلتِ مِن المعروف أثمنه
حتى عُرفت بأزكى الصِيت والذكر

وكم أنرت سبيلاً ضل سالكه
فأنت - بين النسا - كالكوكب الدُري

واليومَ حالكِ يُبكيني ويُؤلمني
إذ لستُ أبذل ما أرجو من البر

في غربةٍ وعِيالي فوق هامتها
وضِيق ذاتِ يدي دربٌ إلى الفقر

عقدان في غربةٍ طمّت دغاولها
في عالمٍ ضيق الأركان كالقبر

والقومُ حولي أنانيون أغلبهم
ولقمتي تُجتنى بالكَرّ والفر

ماذا عليّ إذا فارقتُ مُرتحلاً
إلى جواركِ أرجو طيّب الذخر؟

أكونُ ضيّعتُ ما أعولُ مِن ولدٍ
وقد أبوء بذا التضييع بالخسر

وفرصة تلك - للأبناء - قاطبة
فوجّهي اللوم والتوبيخ للغير

وأنت أعظمُ مَن - في العُسر - يعذرني
ولاعتذاري شجىً ، فلتقبلي عُذري

وكم تماديتُ في الهجران مُحتملاً
ذل الفراق وشوقاً في الحشا يسري

وكم تشتتُ - في الأصقاع - مغترباً
عن الديار أعاني قسوة الجَور

مسافرٌ - ما له - خِلٌ يؤانسُه
بل تستبدُ به مَرارة السفر

فلتجعليني إذنْ يا خير والدةٍ
في خير حِلٍ من التوبيخ والزجر

أما مصابُك فالعيونُ شاهدة
بالدمع فيها ، بلا توقفٍ يجري

يا (أم أحمدَ) ذِكرى الأمس بازغة
كالشمس تُشرقُ في دياجر الفجر

مازلتُ أبحِرُ في أريج عِشرتنا
مباهياً بكِ في مجدٍ وفي فخر

يا بنت خير أب طابت سريرته
وإن مولاي كم قوّى به أزري

يا بنت أفضل أم في مرابعنا
سِت الخِلال بلا عَدٍ ولا حصر

هذي (برمبالُ) تبكي فقد غائبةٍ
عنها ، ووخز النوى في النفس كالجمر

والذكرياتُ لها صدىً ودندنة
يفوحُ منها شذى الكافور والسِدر

وفي القلوب ترانيمٌ تحنّ لها
وترسِلُ القولَ بساماً لكي يُطري

وأنتِ - في موكب الغادين - باسمة
بلا اختيال ، ولا زهو ، ولا كِبْر

يا (أم أحمدَ) أجرٌ بعد عافيةٍ
لا تجزعي إن أوتْ ساق إلى البتر

والله يأجرُ أهل الصبر مَكرمة
لهم ، فتوقي إلى زيادة الأجر

أرجوكِ يا أمُ ، لا تأسَي ولا تهني
ولا تلومي القضا يا ربة القدر

تجلدي للذي ربي ابتلاكِ به
تجلدَ المُخبتين السادة الغر

واسترجعي ، إن الاسترجاعَ مَنقبة
تزجي البشارة في التضييق والعُسر

وصابري واصبري ، وارضَي بما كتبتْ
يدُ الإله القدير الراحم البر

© 2024 - موقع الشعر