حسان أشعر منها! (من الخنساء) - أحمد علي سليمان

حسانُ شمسٌ بالقصائد تشرقُ
فيُضاء مغربُنا بها ، والمشرقُ

هو نهرُ شعر ، ليس يَنضبُ ماؤه
بل بالفضائل دائماً يتدفق

لم يَحرم التالين لذة شعره
بل كان - بالفحوى - يفيض ويُغدق

أشعاره فاحت أريجاً زاكياً
فلكل بيت - في القصيدة - رونق

ولكل تصوير مباهجُ جمة
ولكل تشبيهٍ عبيرٌ يعبق

لان البيانُ له ، فصاغ رموزهُ
شعراً قصائدُه حياضٌ دُفق

هو رد كيد المشركين بشعره
حتى استكانوا - في النزال - وأطرقوا

هو زاد عن عِرض النبي ودينه
ولسانه - في النيل - منهم أذلق

ودعا النبي له ، فأطلق شعره
ناراً تؤز الكافرين ، وتحرق

حُمماً من التبيان يُلهب وَهجها
تكوي الذي يهجو النبيَ ، وينعق

يتتبعُ الأنساب كي يتحسروا
وبكل ما يفري المشاعرَ ينطق

ويذيقهم مِن ذل ما قد خبأوا
وله دليلٌ لا يُرَدّ ومَوْثق

ويعيب أجداداً تُفرّق جمعُهم
حين الجلاد ، وقبلُ لم يتفرقوا

وكلامه فيهم أشدّ من الردى
وقلوبهم - مِن كل حرفٍ - تخفِق

مازال يُصْليهم ويَدحضُ مكرهم
والشعرُ يشكرُ قوله ويُصدِّق

في مسجد المختار كان قريضه
دُرراً غدتْ مِن حُسنها تتألق

وكأن (حسان) انتقى ألفاظها
والسامعون - لمَا يقولُ - تشوّقوا

هو فارسُ الكلمات يُبدعُ نظمَها
وعليه لم تكن الرؤى تستغلَق

سبحان مَن رَزق المواهبَ مِنة
هذا له - في كل هيجا - فيلق

ومُكلفٌ رُزِق المكانة في الورى
وله مقالٌ - في الأنام - ومنطق

ومكلفٌ رزقَ الدراهم والمَلا
فتراه يُمسك تارة ، أو يُنفق

ومكلفٌ رزقَ العلومَ ، فلم يزلْ
يدعو الغفاة إلى الهُدى ، ويُحقق

ومكلفٌ رزقَ المزارعَ غضة
والماء - بين ثمارها - يترقرق

ومكلفٌ رزقَ القبولَ تكرماً
وإلى الشفاعة إنه للأسبق

ومكلفٌ رزقَ الشجاعة في الوغى
وفؤاده بلِوا الجهاد معلق

ومكلفٌ رزق القناعة والرضا
إن التشبث - بالمطامع - يوبق

ومكلفٌ رزق التعفف منهجاً
إن التعفف – بالموحد - أليق

ومكلف رزق الشهامة والمَضا
فلديه بيتٌ بابُه لا يغلق

ومكلف رزق القصور أنيقة
في كل صُقع عِزبة أو جوسق

ومكلف رزق العيال ، لهم هوىً
في قلبه - يسبي النهى - وتشوق

ومكلف رزق الوظيفه ، فاستمى
في ثوب مختال ، غدا يتأنق

ومكلف رزق الوسامة والبَها
فتحبه (لبنى) ، و(ليلى) تعشق

ومكلف رزق الثيابَ جميلة
مِن سُندس نسجتْ ، عليه استبرق

ومكلف رزق السدادَ ، فرأيُه
عند الخلاف الشمسُ لمّا تشرق

ومكلف رزق الذكاء موفقاً
إن القليل من الذكاء يوفق

ومكلف آتاه ربي حكمة
فتراه فيما ينتوي لا يخفق

ومكلفٌ مُنح البيان وسيلة
تهدي الطريق إذا الدياجي تغسق

والله ربي خصّ حساناً بها
لا يُسأل الرزاقُ عما يَرزق

حسان أقوى شاعر وطئ الثرى
وبرغم مَن يبغي عليه ويحنق

هو قد أجاد من القريض فنونه
هو لم يكن في شعره يتفيهق

هو أنشد الأشعارَ وفق بحورها
للخزرجي بكل بحر زورق

في (المدح) لم يكُ في المدائح مثله
وكأنما أمداحُه تتحقق

مدحَ الملوكَ لذا ترفع شعرُه
هو لم يكن - في مدحه - يتملق

في (الفخر) كل الناس تعرفُ فخره
هو لم يكن - في فخره - يسترزق

لكنه فخرٌ بشِرعة ربه
ليغيظ مَن سبوا النبي ولفقوا

وأجاد ترجيع (الرثاء) بنبرةٍ
ملتاعةٍ تشجي الفؤادَ ، وتشفق

وأجاد ترجيع (الهجاء) لمُغرض
يهجو النبيَ بعزمةٍ تتحرق

وأجاد في (الوصف) الذي يحلو له
إن كان يُثبت ما يرى ويُوثق

ورأيتُ (خنساء) الحنيفة آية
ترتاد أفق الشعر ، ثم تحلق

بلغتْ سماءً في القريض عليّة
بقصائدٍ في كل حين تسمُق

لكنْ لحسان عليها رُتبة
إذ رَدعُها الكفارَ ردعٌ ضيق

رغم المآخذ أصدرتها ما اعتلتْ
كالخزرجيّ جوادَ شِعر يسبق

أما (ابن ذبيان) فليس بحجة
وجميعُ ما قد قال عنها شيق

فليلزم الأصنامَ إذ هو عبدُها
وكلامُه عنها أدقُ وأعمق

والعذرُ ملتمسٌ له في حُكمه
فلربما ألقاه ليس يدقق

ولربما (حسان) كال مديحَه
يُطري الملوك فكافأوه ، وأغدقوا

ولربما لو كان أنصت للذي
يتلوه (حسانُ) الهدى ، ويصدق

لتغيرتْ آراؤه وثناؤه
إذ مات قبل نبينا فيمن شقوا

لم يستمع (حسان) بعد هدايةٍ
أضحى بفضل صلاحها يتألق

حسان أشعرُ مَن علمتُ ، وربنا
مهما هجاه مخرفٌ متحذلق

وأبو بصير دونه بمراحل
مهما تخرّصَ أرذلٌ متفيهق

إن لم يكن شِعري يُبلغني الهدي
لعبادة الرب الذي هو يخلق

ما قِيمة الأشعار أنشدها إذن
إن كنتُ - في الأخرى - بنار أحرق؟

© 2024 - موقع الشعر