الأندلس بين المجد والفقد! - أحمد علي سليمان

يا أرض أندلسُ فداكِ بياني
عف المقاصد ناصع التبيانِ

شعر رطيب اللفظ مِعطارُ السنا
وتفوقُ فحواهُ شذى الريحان

يُزكي المشاعر ، في قوافيه الصدى
ورموزهُ - للمعجبين - حَوان

وثماره - لمن اشتهاها - أزلفتْ
وخيوره - للراغبين - دَوان

شعرٌ شدتْ أجراسُه مُلتاعة
حيرانة الإيقاع والألحان

بدمي نقشتُ حروفهُ وطيوفهُ
وسعيتُ - فوق الشوك - والسعدان

ورسمتُ تجربتي مَعيناً صافياً
لمن استقى من زمرة الندمان

لم أدخر - من ساح عمريَ - مَعلماً
بل جُدت بالتذكير كالفيضان

أرسلتُ نصّي للبرايا مُخلصاً
ومَزجته بحلاة الإيمان

وكتبتُ عن نفسي وعمّا نالني
والشعر كان وسيلتي وبياني

وذكرتُ آلام الكسيرة أمتي
ورددتُ عنها - كم – عتيَّ طِعان

وطعنتُ - كم - من شبهة شرقتْ بها
في غير وادٍ ألسُنُ العُبدان

وأقمتُ - كم - من حُجة قد عُمِّيتُ
في عالم التطويع والخذلان

لأعيد حقاً ، غاصبوه تفرعنوا
وتذرَّعوا بعبادة الأوثان

ولكم بكيتُ ممالك الإسلام في
دنيا القريض بدمعيَ الهَتان

ورثيتُ مجداً جُندلتْ أركانُه
فاليومَ مَن للمجد والأركان؟

وطفقتُ أهتفُ بالديار ، ترفعِي
فلقد بُليتِ بذلةٍ وهوان

ولبستِ – للهيجاء - لامَة فارس
والدار تسحق همة الفرسان

وظللتُ أوسِع مَن تقاعس لائذاً
بالأمنيات وصولة الهذيان

ونقدتُ واقعنا المعاصر منصفاً
متمسكاً بشريعة الرحمن

مستصحباً حُكم المليك ، ورافعاً
عَلمَ النزاهة في سما الميدان

ومُعوّذاً قلبي بربيَ مخبتاً
وعلى المهيمن وحده تُكلاني

أدلي بأصدق مَلحظٍ وشهادةٍ
ونصيحةٍ في السر والإعلان

يا أرض أندلس مصابُكِ هزني
واجتاح عاطفتي ، ورجّ كياني

واغتال إحساسي بغير جريرة
وأصاب مني الجسم باليرقان

ورمى - بحربته - برئ مشاعري
والقلب عانى شدة الخفقان

ما إن سمعتُ بما جرى ، وقرأتُه
ولمستُ من وحشية العُدوان

حتى بكيتُ ، وراعَني فرط البكا
والدمع قرَّح نضرة الأجفان

إذ أنتِ - في هذي الديار - منارة
تُزجي الضياء على مدى الأزمان

ياقوتة - بين اللآلئ - تزدهي
في جيدها الوسنان عقدُ جُمان

وكأنها - بين الخلائق - غادة
تُزري - بما في الأرض - من نسوان

تختال بين الغِيد ، تنشر حُسنها
والتاجُ - فوق الرأس - من مَرجان

نعْمَ الجمالُ ونعْم مَن تزهو به
فلأنتِ - صدقاً - دُرة البُلدان

وطبيعة خلابة ، تسبي النها
أمستْ تدِل بحُسنها الفتان

والماءُ منسابٌ على جنباتها
ينجاب بين الدوح والأفنان

هذي الجنان يفوح عطراً جوُّها
وربوعُها تحيا بفيض أمان

أرض حباها ربها كل البها
وتفوق في الإبداع كل مكان

فيها الجداولُ تحتفي بمُروجها
وجمالها متنوعُ الألوان

وجبالها ذهبٌ ، صفا لمعانه
وبريق هذي الأرض في الكثبان

حدِّثْ ولا حرج عن الخيرات في
هذي الديار وروعة البُنيان

كم قصَّد الشعراءُ في حُسن الربا
وطلاوة الأصقاع والخلجان

وكذاك صاغ الكاتبون نعيمها
سحراً حوى - كم - صورة ومغان

كم صَورتْ أقلامُهم نسماتها
وهواءها الميَّاد في الوديان

والشعر أبرز حُسنها وجمالها
فاستقرئ الأشعار في الديوان

واستنبئ التاريخ عن أمجادها
وتراثها وأصالة العمران

يُنبيك عن عز وفحوى مَحتدٍ
وعمارةٍ في غاية الإتقان

يا أرض أندلس ، رثاؤك دامعٌ
والمجدُ - من خلف الثغور - دعاني

مجد الحضارة والشريعة والتقى
هذان - في الدنيا - هما المَجدان

والعلم والأدب الرفيع دِعامة
وهما لعُملة مجدنا صِنوان

وسلي إذا شئتِ (الأماليَ) كي ترَيْ
مجداً ثوى في عالم النسيان

وأبو علي فيه أعمل فكرهُ
حتى غدا في العلم كالصفوان

سِفرٌ أباد حوالكاً ودياجراً
وتميَّز (القاليُّ) بالرجحان

وسلي (الفصوص) وما حوت صفحاتها
وأبو العلاء بعلمه أغراني

حتى رأيتُ من (الفصوص) أشعة
وبريقها بين السطور غزاني

وتفرَّد (العقد الفريد) بميزة
تسبي العقول بنورها الريان

وسما (ابن عبد الرب) مِن بين الورى
بالعلم يقتل ظلمة الأكوان

وسلي (الشريشيِّ) الذي مسح المدى
لمَّا يدعْ - في الأرض - أي مَغان

ومضى مع (الليثيِّ) في الترحال لم
يتركْ - بأرض الله - من قيعان

والناصر المغوار قد أرسى العُرى
وعلى العِدا قد كان ذا صوَلان

قد كان - في الهيجاء - خير مقاتل
يهوى الطعان ، وفي اليمين يماني

كم لقن الأعداء درساً شافياً
والموتُ أضحى من نصيب الجاني

خصمان كم زكتِ المعاركُ بينهم
والحق أنْ لم يستو الخصمان

خصمٌ يجاهد في المليك وشرعه
فله جنانُ الخلد والرضوان

وعلى النقيض هناك خصمٌ كافرٌ
ولسوف يَخلد في لظى النيران

والناصر الفذ الأديب أرادها
محكومة بشريعة القرآن

لم يستعر قانون من عبدوا الهوى
أنعم بحامي الحق من سلطان

وأقام مكتبة على أرحابها
حتى تقدّم علمها الرباني

وأبو البقاء رَثا الممالك باكياً
ورِثا الممالك من سنا العرفان

هو خط في (نونية) بدموعه
والشعرِ ، ما يُبكي جوى الإنسان

هي من عيون الشعر ، تُطرب أهله
وتكون - للمكروب - كالسلوان

إذ نوَّع (الرَنديُّ) إيحاءاتها
والنقدُ جلى روعة البرهان

وأدار دولاب المواعظ عامداً
حتى يُبيِّن سُنة الديان

وأبان من كيد النصارى صادقاً
والكيد طابَعُ مِلة الكفران

أأبا البقاء نكأتَ جرحاً مزمناً
لمَّا يكن والله في الحُسبان

جوزيتَ خيراً ، أنتَ حقاً أهله
يا من مَزجتَ الشعر بالشكران

أنت الذي علمتنا معنى الوفا
لنقابل الإحسان بالإحسان

ورسمتَ للشعراء درباً مخلصاً
وأضفتَ للإيحاء والأوزان

وأتى (ابن عبدون) فنافح وانبرى
ليسير في مرثية الإخوان

فسعى إلى الميدان ، يبكي مَن قضى
ويصد - في ثقةٍ - رحى الطغيان

ويُعطر الدنيا بشعر نابض
يُزجي حياة العز للشجعان

فإذا قصائده مناراتُ الهُدى
والشعر - في الإيقاظ - مِثلُ أذان

وعلى الدغاول قصَّد ابن خفاجةٍ
دُرراً تروِّض سَوْرة الغضبان

وبكى على الأطلال ، يندب حظها
وكأنما الأبيات كالأكفان

ودموعُه - فوق الجماجم - سُعِّرتْ
وزفيرُه - في الساح - مثل دخان

يبكي ، وتلتهم الوقائعُ بأسه
فيَحل يَحمل صولة الفزعان

يأسى لما نال الديار وأهلها
والشعر أثقله جوى الأحزان

ويبيتُ يرتجل القريض مضمّخاً
بأنين جفن مُجهدٍ يَقظان

يبكي على المجد التليد ، وقد غدا
خبراً بغزو كتائب الذؤبان

همَجٌ يُحرَّكهم عداءُ عقيدة
فأتوا ، وفي الأيدي من الصلبان

صبّوا على الأرض السعير ، وأشعلوا
في الناس آفاقاً من النيران

وانساب سيلُ الجمر يَحرق دارنا
وسرى هشيمُ النار كالطوفان

أمرٌ مُحالٌ أن تحاول وصفه
وأراه لم يخطر على الأذهان

وأبو المطرَّف شعرُه فضحَ الغثا
شِيَعُ الصليب ، وعُصبة الشيطان

مَن أحرقوا (جيّان) في وحشيةٍ
من أعملوا في الخلق كل سِنان

مَن لطخوا بدما البرايا أرضها
وكأنما الدمُ صار بعض دِهان

فغدت خرائبَ بعد عز حضارةٍ
وغدت يباباً شرفة الإيوان

أأبا المطرِّف شعرُكم أزكى القنا
وقصائد الديوان كالقضبان

نطقتْ - بمحض الصدق - كل قصيدة
وكأنها - يا صاح - ثغرُ رَزان

كم نددتْ بالشر أنزله العِدا
مِن كل عربيدٍ ، ومِن سكران

مَن دمروا في لمحةٍ مَرسية
والدور - بعد القصف - كالحِيطان

وتقاسموا دَوْراً رآه كبيرُهم
إذ إنه - في اللدغ - كالثعبان

سكبوا على الأرض اللظى ، فتضورتْ
وقلوبُهم كحجارة الصوان

لم يرحموا شيخاً ولا امرأة ، ولا
لم يُشفقوا حتى على الصبيان

فإذا بأشلاء الضحايا كالثرى
والبعض بين مخالب العقبان

وإذا بأجمل بقعة في دارنا
أودتْ بها همجية الشنآن

خارت قوى هذي المدينة ، فانزوتْ
خلف الربا ، تعساً لذا الخوَران

والتلمسانيّ المؤرّخ خصّها
معْ أختها في الابتلا جيان

واسأل (بلنسية) لمَ ارتجفتْ أسىً؟
وهل استُجيب لذلك الرجفان؟

إذ طالها أعداؤها بسيوفهم
فاستنجدتْ بالفارس الطعان

وغدتْ مساجدها كنائسَ للعِدا
ومجامعاً تكتظ بالأديان

وعلتْ بباطل شركهم أجراسُهم
واستأسرتْ بالجبر بالآذان

واهتفْ ب (قرطبةِ) العلوم ودَوْرها
وتراثها المتشامخ العثماني

واسأل عن العلماء أين دروسهم
القرطبي وصنوُهُ (الطبراني)؟

والشعرُ أين؟ وأين نثرٌ قد ثوى؟
وأسأل عن (القاليّ) (والهمذاني)؟

أين (ابنُ حزم) في براعة فقهه
وجداله بالحق كل جبان؟

أين (المُجلّى) صاغه لمن اشتهى
فقهَ الشريعة والهُدى الرباني؟

وأقول: بل أين (المُحلّى) صاغه
لمن ابتغى الذكرى من الوُلدان؟

ليُحق حقاً ، ثم يُبطل باطلاً
إذ ليس في الإسلام من بُطلان

واسأل (طليطلة) الجمال عن البها
واسأل عن التفاح والرمان

واسأل عن الدرّاق يُبهج ناظراً
واسأل عن الزيتون والسِّمان

واسأل عن البَلشون ملء سمائها
والبرتقال يُطل من بُستان

واسأل عن الجنات ملء رحابها
من كل فاكهةٍ بها زوجان

واسأل عن الأنهار تمنحها الروا
والماءُ فيها دائمُ الجريان

واسأل عن الأطيار تشجيها غنا
سرباً تطير ، وبعد ذاك مَثاني

وهواؤها يشفي العليل نسيمُه
ويُفيق مَن في حَمأة الغثيان

وإذا بها رمل على صخر تبع
ثر في الدجى ، في غيْبة السكان

مَن حطم العمران دون هوادةٍ؟
مَن أعمل الأسياف في الأبدان؟

مَن أحرق الزيتون والرمان من؟
ومَن الذي أشفي بدون توان؟

مَن دك بُنيان العظيمة دارنا؟
ومَن استطال بها بلا استئذان؟

إن الجناة هم النصارى وحدهم
والكيدُ كيدٌ مُشركٌ نصراني

وسل (الوزير) ، وقد رثى أحبابه
أبناءَ (عَبَّادٍ) سنا الأقران

ورِثا (أبي بكر) أصيلٌ فاصلٌ
خال من التدشين والبُهتان

والشعر يشهد بالبراعة ضارعتْ
رجْع الصدى ، وثواقب الشهبان

قلمٌ أصاب من القريض لبابَه
وله - إلى سبْي الشعور - يدان

إن (الوزير) لصادقٌ في شعره
ومُخلل أشعاره بحنان

فإذا قرأتَ هفا إليك قريضه
مثل الثمار تحن للأغصان

فإلى (أبي بكر) رطيبُ تحيةٍ
ما قالها من قبلُ أي لسان

وعليه من رب الخلائق رحمة
ما لاذت الأطيار بالطيران

أنا ما نسيتُ (الشاطبيّ) وعلمه
والإعتصامُ منارة الحيران

علمٌ وتوحيدٌ وفقهٌ واضحٌ
هُم للمليك بقية العرفان

نهر من العلم المنقح قد جرى
بين الورى هِبة من المَنان

والشاطبي - كما أرى - موسوعة
هو جهبذ - صدقاً - رفيع الشأن

وأضاء (شاطبة) بعذب عطائه
لمَّا يُردْ - بالعلم - مدحَ فلان

بل نيّة خلصتْ لديان الورى
يرجو بها بُحبوحة الغفران

إني لأحسبه ، وربي حَسبُه
كيلا أكون عدلتُ بالرحمن

رحم المليكُ (الشاطبيّ) فقيهنا
مادام - في هذي الدنا - الثقلان

يا أرض أندلس ، رجالك نوروا
آفاقنا بشرافة الفرقان

إن كنتُ أنسى ، لستُ أنسى شاعراً
ملأ الدنا بأطايب الألحان

أعني (الفزاريَ) الأديب وشعره
يحكي الذي قد كان من حسان

قد كان شاعر عصره وزمانه
وأمير شعر الحق كل زمان

أعطى ، ولم يكُ في التفضل باخلاً
ورثى ذهاب الدار والشبان

وكذا (ابن غسّال) خطيبٌ مُصْلِقٌ
وأديبُ كل مَحلةٍ وأوان

صاغ القصائد في مُصاب بلاده
وكأنما الأشعار رجْعُ أغان

هو شاعر نثر القريض مزركشاً
فشدتْ به - في الدار - بعضُ قيان

وكذا (ابن عبدون) ، فأعذب شاعر
وجوادُه - في الشعر - دون عنان

أبكى - وبعدُ بكَى - لمَا نال الورى
وقصيدهُ كالمِرجل المَلآن

فلكٌ يدور الشعر في وجدانه
والقلبُ في جدٍّ ، وفي دوران

لم يَخذل الدار الكسيرة لحظة
إذ خذلها من أقبح النكصان

بل بيَّن الحق الذي يحيا لهُ
لمَّا يَبُؤْ بمرارة الكتمان

واستهجن الغزو الكفور لداره
والشعر تاق لذاك الاستهجان

فإذا قصائده النبالُ على العِدا
تحثو الجحيم على ذرى التيجان

فليرحم الرحمن شاعرنا الذي
نصر الشريعة بالمِداد القاني

يا أرض أندلس ، ألا فلتذكري
بطلاً سما إذ جاءتِ الفئتان

قد كان في (الزلاقة) الشهبا فتىً
إمَّا رأيتَ فذا أبو سفيان

هذا على الجبار (معتمِدٌ) ، فلم
يَعمَد إلى ذي قوةٍ عِبراني

أبلى بلاءً في الجهاد ، ولم يكن
في بأسه والصدع بالمُتواني

لمّا يفرّ ، وقد رأى سُعُر القنا
إن الفرار كبائر العصيان

يا أرض أندلس خِلالكِ جمة
وبريقها مستشرفُ اللمعان

إنا افتقدنا فيكِ أعظم جنة
والقول قولٌ منصف حقاني

بذنوبنا وذنوب قومكِ كان ذا
والسنة انسحبتْ على الجيران

كم عشتِ مجداً شامخاً مترفعاً
حتى محته معاولُ الحرمان

فغزاكِ أخزى مَن على هذي الدنا
وأقول: مَن أخزى مِن الرومان؟

والله أسأل أن يُعيدك للدنا
مأوى لأهل الحق والإيمان

يا رب فاجبر كسرها ، وتولها
مَن ينصر الهلكى سوى الديان؟

© 2024 - موقع الشعر