المنمنمة الثّامنة - صدقي شعباني

تختزلني الأشياء كما تختزل الموجة ما كان يمكن للبحر أن يقوله –
 
أشيائي كلّ صباح تتركني، أو أتركها؛ سيّان.
 
ما دامت دقّات السّاعة تعلن الزّمن سيّدا،
 
هو يعرفني، مثلما تعرفني الطّرقات،
 
والضّوء الشّاحب عند الجسر، وبعض المنسيّين
 
أراهم يمشون إلى الخلف.
 
أسأل:
 
- هل أخطأت حينما سايرت الطّريق؟
 
أو:
 
- أنّ اللّيل يحجب عن عينيّ الرّؤية؟
 
هذا الضّوء الشّاحب عند الجسر،
 
وهؤلاء المنسيّون، وشيء آخر يعرفني
 
ولم أعرفه، تتشابك أيديهم، فأسمع
 
في البعد صدى... كان اللّيل يغيّر وجهه،
 
والمدن الّتي كنت دوّنت أسماءها في ذاكرتي
 
تخرج من نفس العصب المخفيّ لتأخذ شكل
 
المرأة الوحيدة في الشّارع قرب محطّة البنزين.
 
كانت أسئلتي تنسل مثل الدّيدان،
 
تقتل تلك المرأة من رأسها حتّى القلب،
 
تكتب تلك المرأة أفكارا ساديّة على بعض خطى
 
لم تعتد قساوة البلاط المغسول بطراوة
 
أواخر اللّيل –
 
_ هل كانت تلك المرأة تشبه أخرى؟
 
_ أم تلك السّاعة تصنع نساء مثل الدّقّات؟
 
_ أم هو اللّيل فقط يترجم جوع الأعضاء؟
 
أختزل الأشياء، انتقاما. أصنع أسئلة، وأعرف
 
الإجابات، وأفضّل أن ألوّن بدل أن أضيف إلى
 
الكلمات كلمات جوفاء. أعلّق فوق نافذتي المفقودة
 
زهرة الكاميليا الّتي أعطتنيها "سارّة المجدليّة"،
 
أفرش في أرض الغرفة صفحات من "بغماليون" ل"شو"،
 
وأبعثر فوق الجدران جميعا رباعيّة "الأرض الخراب"...
 
تعجبني مأساتي اللّيلة ككلّ ليلة، وأؤجّل لحظة البكاء
 
إلى همسة التّوحّد الأولى لديك مهزوم على التّلّة:
 
( كوكوريو...) ( كوكوريكو...)
 
كان يجيء مع الصّوت،
 
مع نفثات سيجارتي الأولى. بقميص كحليّ تتعامد عليه
 
خطوط بيضاء، وابتسامته الملغزةز
 
مازلت أذكر ما قالت "فرجينيا"، لكنّي
 
لم أستطع أبدا الإساءة إليه... كان يغنّي فأغنّي،
 
ويأخذ بيدي، ليغرقني حيث غرق "فيليباس الفينيقيّ".
 
أنا "فيليباس"... أنا "نيسان" الوحشيّ... أنا الورقة
 
البيضاء الّتي كانت حيّرت السّيّدة "سوزوسترس"، وكنت
 
عمّدت بقطرة ماء جدب الأشياء.
 
قال لي "ترسياس":
 
- هل أحببت "إليوت"؟
 
أو، عفوا، أخطأت.
 
قال لي "إليوت":
 
- هل كنت رأيت "ترسياس" في السّاعة البنفسجيّة
 
الّتي كانت تحمل الرّاقنة إلى بيتها بعد الظّهر،
 
و"سويني" والسّيّدة "بورتر" إلى لحظة حزن مجنونة؟!
 
كنت أجبت بأنّي رأيت –
 
بأنّي عرفت وجرحت –
 
وأنّي عشقت الأشياء جميعا –
 
وسمعت الأصوات جميعا –
 
وبأنّي خارج دقّات هذه السّاعة لا أعني شيئا
 
ولا أرى الضّوء الشّاحب، ولا المنسيّين
 
أراهم يمشون إلى الخلف... ولكنّي لم
 
أسمع هذه اللّيلة
 
 
 
ومن كوّة نافذة عزلاء، كان النّدب يشيّع سيّدة الأشياء!!
 
*
 
العين في: 26 تشرين الثّاني 2007
© 2024 - موقع الشعر