بكائية على صدر الوطن - مظفر النواب

في تلك الساعة.. حيث تكون الروضة فحل حمام
 
في جبل مهجور
 
وأضم جناحي الناريين على تلك الأحذية السرية
 
وأريح التفاح الوحشي
 
يعض كذئب ممتلئ باللذة
 
كنت أجوب الحزن البشري.. الأعمى
 
كالسرطان البحري
 
كأني في وجدي الأزلي
 
محيط يحلم آلاف الأعوام
 
ويرمي الأصداف على الساحل
 
كم أخجلني من نفسي هذا الهذيان المسرف
 
بالوجع الأمي
 
كأني أتنبأ أن بذور اللذة مدت ألسنة خضراء
 
وشفرات في رحم الكون
 
وأعطت جملاً أبدية
 
مولاي لقد عاد حمام الجبل المهجور
 
يمارس عادته النارية
 
هل تعرف عادته النارية؟
 
أما أنت فأصحرت وعرفتك لا تنوي الرجعة !!
 
أصحرت بلا أي علامات وبلا أي صور
 
وعرفتك لا تنوي الرجعة
 
فالقلب تعلم غربته.. وتعلم بالبرق
 
تعلم ألا ينضج كل النضج
 
فيسقط بالطعم الحلو.. ويسقط في الطعم الحلو
 
وأرق وامتنع النوم علي لأبواق أزليه
 
عرف المفتاح الكامن في القفل
 
وما يربطه بالقفل الكامن بالمفتاح
 
فباحت كل الأشياء
 
وتضرج قلبي بالأنباء
 
يا هذا البدوي المسرف بالهجرات
 
لقد ثقل الداء
 
قتل ريقك لليل
 
فلابد لهذا الليل دليل
 
يعرف درب الآباء
 
ويقبع بالحذو الناقة بالصحراء
 
يا هذا البدوي تزود وأشرب ما شئت
 
فهذا آخر عهدك بالماء
 
من مخبر روحي أن تطفأ فانوس العشق
 
وتغلق هذا الشباك
 
فإن غبار الليل تعرى كالطفل
 
وان مسافات خضراء احترقت في الوعي
 
فأوقدت ثقاباً أزرقاً
 
في تلك النيران الخضراء
 
لعل النار أرى
 
ولعل اللحظة تعرفني
 
من ذلك يأتي
 
بين عواء النفس وبين عواء الذئب
 
وبين غروب النخل يرافقني نصف الدرب
 
وبعد النصف يقول يرافقني
 
ناديت بكلتا أذني.. فأوقفت مجاهيل الصحراء
 
وعيني في الطين
 
أعدل من قدمي الملوية
 
والأضواء افترستني
 
أمسكت على الطين لأعرف أين أنا
 
في آخر ساعات العمر
 
رفعت الطين الى الرب
 
بهذا الدين.. تقربت اليه
 
فأطرد عاطفتيه
 
وكانت قبضته تشتعل الآن بنيران سوداء
 
وكان المطر الآن صباحاً
 
وانطبقت كل الأبعاد
 
وصرت كأني صفر في الريح
 
وصلت الى باب النخل.. دخلت على النخل
 
أعطتني احدى النخلات نسيجاً عربياً
 
فعرفت بأن النخلة عرفتني
 
وعرفت بأن النخلة في عربستان أنتظرتني
 
قبل الله
 
لتسأل ان كان الزمن المغبر غيرها
 
قلت.. حزنت
 
فأطبق صمت وبكى النخل
 
وكانت سفن في آخر شط العرب
 
احتفلت بوصولي
 
ودعني النوتي وكان تنوخياً تتوجع فيه اللكنة
 
قال الى أين الهجرة
 
فارتبك الخزرج.. والأوس بقلبي
 
ومسحت التلقيط من الحبس
 
لئلا يقرأني الدرب
 
وسيطر قنطار وعاش الصبح
 
فجاء الله الى الحلم
 
وجاء حسين الأهوازي يفتش عن دعوته
 
جاء النخل.. وجاء التعذيب.. وجاءت قدمي الملوية
 
جف الطين عليها
 
في البرد.. وزاغ الجرح
 
وطارت في عتمات القلب
 
فراشات حمراء.. وأشجار الحزبية
 
قد شحنت بالحزن وبالنار
 
نزلت الى ذاتي في بطء
 
آلمني الجرح.. مددت بساقي
 
خرجت قدمي كالرعب من الحلم
 
وكان الابهام هي عين عمياء
 
تشم برودة ماء (الكارون)
 
وهذا أول نهر عربي في قائمة المصروفات
 
وشم الذئب الشاهنشاهي دمي
 
شم الذئب دمي.. سال لعاب الذئب على قدمي.. ركضت قدمي
 
ركض البستان
 
وكان الرب أصغر برعم ورد
 
ناديت عليه فذقت الكركمركض الرب.. الدرب.. النخل.. الطين
 
وأبواب صفيح تشبه حلم فقير
 
فتحت ووجدت فوانيس الفلاحين
 
تعين على الموت حصان يحتضر
 
عيناه تضيئان بضوء خافت فوق ألوف الفلاحين
 
وتنطفآن وينشج
 
لو مات على الريح
 
وبين لفيف الضوء البري
 
لكان الشعب سيحتضر
 
غطى شعب الفلاحين فوانيس الليل
 
برايات تعبق بالثورات المنسية
 
فاستيقظت الخيل.. وروحي
 
كالدرع ائتلقت وعلى جسر البرق
 
صرخت الهي هؤلاء الفلاحين كم انتظروا
 
علمهم ذاك حسين الأهوازي من القرن الرابع للهجرة
 
علمهم علم الشعب على ضوء الفانوس
 
لا والله على ضوء الظلمة
 
كان حسين الأهوازي بوجه لا يتقن الا الجرعة
 
والنشوة بالأرض
 
وقال انتشروا فانتشروا
 
كسروا الأنهار كسورا مؤلمة برضاها
 
كسروا ساقيتين
 
أشاعوا الظلمة والأرحال
 
وراء النخلة وانتشروا
 
لفوا جسدي بدثار زركش بالطير
 
أورثهم أياه حفاة الزنج
 
فقلت لقد علمهم ذاك حسين الأهوازي
 
عشية يوم في القرن الرابع للهجرة
 
كيف نسينا التاريخ؟
 
دخان.. أمل أطلق فلاح في أقصى الحنطة ناراً
 
فانقضت كل وطاويط الشاه هناك
 
وكانت قدمي الملوية قد تركت
 
بقع خضراء من الدم المخلص
 
واستجوبت الأحجار فلم ينطق حجر
 
كيف نسينا التاريخ؟
 
وكيف نسينا المستقبل؟
 
كان القرن الرابع للهجرة فلاحاً
 
يطلق في أقصى الحنطة ناراً
 
تلك شيوعية هذي الأرض
 
وكان الله معي يمسح عن قدمي الطين فقلت له
 
اشهد اني من بعض شيوعية هذي الأرض
 
ودبَّ بجسمي الخدر
 
وغفوت وكان الفلاحين يردون غطائي فوقي
 
في العاشر من نيسان تفرد عشقي
 
أتقنت تعاليم الأهوازي
 
ووجدت النخلة.. والله.. وفلاحاً
 
يفتح نار الثورة في حقل الفجر
 
تكامل عشقي
 
ما عدت أطيق تعاليم المخصيين
 
تفردت.. نشرت جناحي
 
في فجر حدوث
 
ووقفت أمام القرن الرابع للهجرة
 
تلميذاً في الصف الأول
 
يحمل دفتره.. يفترش الأرض.. يعرف كيف تكلم عيسى في المهد
 
فإن الثورة تحكي في المهد
 
ويسمع صوت السبل النارية تبدأ بالخلق
 
اللهم ابتدئ التخريب الآن
 
فإن خراباً بالحق.. بناء بالحق
 
وهذا زمن لا يشبه إلا القرن الرابع للهجرة
 
او ما سمي كفراً.. زندقة.. او أدرج بالفتن
 
في طهران وقفت أمام الغول
 
تناوبني بالسوط.. وبالأحذية الضخمة عشرة جلادين
 
وكان كبير الجلادين له عينان
 
كبيتي نمل أبيض مطفأتين
 
وشعر خنازير ينبت من منخاريه
 
وفي شفتيه مخاط من كلمات كان يقطرها في أذني
 
ويسألني: من أنت؟
 
خجلت أقول له:
 
"قاومت الإستعمار فشردني وطني"
 
غامت عيناي من التعذيب
 
رأيت النخلة.. ذات النخلة
 
والنهر المتشدق بالله على الأهواز
 
وأصبح شط العرب الآن قريباً مني
 
والله كذلك كان هنا
 
واحتشد الفلاحون عليّ وبينهم كان
 
علي.. وأبو ذر.. والأهوازي.. ولوممبا.. وجيفارا.. وماركس
 
لا أتذكر فالثوار لهم وجه واحد في روحي
 
غامت عيناي من التعذيب
 
تشقق لحمي تحت السوط
 
فحطّ علي رأسي في حجريه
 
وقال: تحمل فتحملت
 
وجاء الشعب فقال: تحمل فتحملت
 
والنخلة قالت.. والأنهر قالت
 
فتحملت وشق الجمع
 
وهبت نسمات لا أعرف كيف أفيق عليها
 
بين الغيبوبة والصحوة
 
تماوج وجه فلسطين
 
فهذي المتكبرة الثاكل
 
تحضر حين يعذب أي غريب
 
أسندني الصبر المعجز في عينيها
 
فنهضت.. وقفت أمام الجلاد
 
بصقت عليه من الأنف الى القدمين
 
فدقت رأسي ثانية بالأرض
 
وجيء بكرسيّ حُفرت هوة رعب فيه
 
ومزقت الأثواب عليّ
 
ابتسم الجلاد كأن عناكب قد هربت
 
أمسكني من كتفي وقال ،
 
على هذا الكرسيّ خصينا بضع رفاق
 
فاعترف الآنَ
 
اعترف
 
اعترف
 
اعترف الآنَ
 
عرقتُ.. وأحسست بأوجاع في كل مكانٍ من جسدي
 
اعترف الآن
 
وأحسست بأوجاع في الحائط
 
أوجاع في الغابات وفي الأنهار، وفي الإنسان الأوّل
 
أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان
 
توجهت الى المطلق في ثقة
 
كان أبو ذرٍّ خلف زجاج الشبّاك المقفل
 
يزرع فيّ شجاعته فرفضت
 
رفضت
 
وكانت أمي واقفة قدام الشعب بصمت.. فرفضت
 
اعترف الآن
 
اعترف الآن
 
رفضت
 
وأطبقت فمي ،
 
فالشعب أمانة
 
في عنق الثوري
 
رفضتُ
 
تقلص وجه الجلادين
 
وقالوا في صوت أجوف:
 
نترك الليلة..
 
راجع نفسك
 
أدركت اللعبة
 
في اليوم التاسع كفّوا عن تعذيبي
 
نزعوا القيد فجاء اللحم مع القيد ،
 
أرادوا أن أتعهد ،
 
أن لا أتسلل ثانية للأهوز
 
صعد النخل بقلبي..
 
صعدت إحدى النخلات ،
 
بعيداً أعلى من كل النخلات
 
تسند قلبي فوق السعف كعذقٍ
 
من يصل القلب الآن!؟
 
قدمي في السجن ،
 
وقلبي بين عذوق النخل
 
وقلت بقلبي: إياك
 
فللشاعر ألف جواز في الشعر
وألف جواز أن يتسلل للأهواز
 
يا قلبي! عشق الأرض جواز
 
وأبو ذرّ وحسين الأهوازي ،
 
وأمي والشيب من الدوران ورائي
 
من سجن الشاه الى سجن الصحراء
 
الى المنفى الربذي ، جوازي
 
وهناك مسافة وعي ،
 
بين دخول الطبل على العمق
 
السمفوني
 
وبين خروج الطبل الساذج في الجاز
 
ووقفت وكنت من الله قريباً.....
© 2024 - موقع الشعر