نصف غناء.. وحلوى - فاديا غيبور

أنا لا أريدُ المزيدَ من النار والدم والوردِ
كيما أغني..
ولستُ أريدُ جراحاً
أغمّسُ فيها حنينَ الأصابع للحبرِ كي
أبتدي صبوتي لاقترافِ النشيدْ
كفاني دمي منذُ نيفٍ وخمسينَ حزناً
يغذ خُطاهُ إلى مُلتقى نكبةٍ، نكسةٍ
فانكسارٍ جديدْ
كفاني تضرّجُ وجهِ الحروفِ بأوجاع هذي البلادِ الحزينةِ
وهْيَ ترتبُ شوقَ الترابِ إلى الغائبينَ
وريداً يتوقُ إليه وريدْ
كفاني هديلُ الحمام المدمّى
يزور نوافذَ بغدادَ كلَّ احتضارٍ
وقدْ ضاعَ منهُ ومنها انتظار البريدْ
***
أنا لا أريد المزيدَ من النّارِ والدّمِ كيما أغنّي
كفاني احتمالُ الخرابِ الذي أرتديهِ.. الذي يرتديني
ويلتفُّ بي خائفاً منذ أوّلِ حبٍّ وأولِ رؤيا
وأول ترنيمةٍ أمطرَتْ سِحْرَها فوقَ مهدِ الطفولة
ولا أدّعي أنّني قد أبوحُ بكلِّ الذي خبّأتْهُ السّنونَ العجافُ
بصدري..
ولا أدّعي أنّ صَوْتي القليلَ يُهمُّ كثيراً
وقد سدَّ لونُ الرّمادِ الفضاءْ
دماءٌ.. دماءٌ.. دماءْ
رمادٌ... خرابٌ.. دماءْ
وها أنا أشهدُ.. أنّ الزمانَ الذي يَعْترينا
زمانٌ مدمّى
وأنّ الأناشيدَ صارَتْ بكاءً وحمّى
وأنّ العصافيرَ فوقَ نزيفِ الغصونِ
ترفرفُ كلمى
وأني أراوحُ منذُ اقترفتُ عناقَ الترابِ
فما زلتُ أخلعُ همّاً قديماً
وألبَسُ همّا..!
***
أحبُّك هذي الظهيرةَ
يشتاقُ قلبي حضورَك فيَّ فراتاً قديماً
وأسكبُ عمري نبيذاً يُعتّقُ في راحتيكَ
فَيروي أيائل الظامئاتِ
إلى مَطرٍ ذابلٍ وعيونٍ حزينة
فأمضي إليكَ وتمضي إلينا.. ظلالُ المدينة
تسائِلنا عن نخيلٍ قتيلٍ
وعن سَعَفٍ مُسْتبى عند شطِّ الخليجِ.. تُنادي:
-أما مَنْ يَجيرُ النخيلَ القتيلْ؟!!
-أما مَنْ يجيرُ النّخيلْ؟!
-أما مِنْ مُغَنٍ يُغَنّي لأطفالِ بغدادَ
نصفَ غناء وحلوى؟!
-أما مِنْ سماءٍ تبوحُ بليلِ التناجي بمَنٍّ وسلوى؟!!
-أما مِنْ قريبٍ.. صديقٍ.. حبيبْ؟!
-أما مِنْ مُجيبٍ...؟!
-أما مِنْ مُج .. ي .. يبْ؟!
وما مِنْ مُجيبْ!...
توجهتُ نحوَ فضاء جنونِكَ
هذا الذي شدَّني قبلَ ثلجٍ مضى، قبلَ وردٍ مضى
ومثلَ البلادِ التي جرّحتها القذائفُ
كنتَ حزيناً، وكان الجنونُ الجميلُ حزيناً.. حزينْ
وكانتْ بعينيكَ تهمي مشاهدُ قتلٍ، سيولٌ، دماءْ
وبينَ الدماء.. وبينَ الدماءْ
يُسافرُ أطفالُنا الخائفونَ يلمّونَ أشلاءَ أصحابهمْ
ويقتطفونَ عويلَ النساء الثكالى
وأحلامَ أهل القرى الطامحينَ إلى نجمةِ الخبزِ فجراً
وكانوا..
يلمّونَ صرخاتِهمْ عندما يولدونَ
فيُحتَضَرون.... ولا يولدونْ!
***
أنا وسماءُ دمشقَ وأنتَ
وأصواتُنا صَخَبٌ نازفٌ فوقَ رملِ الجهاتِ
فلا طائراتٌ تمرُّ بأحلامنِا لا حمامٌ
يطيرُ ببعضِ رياحٍ.. وبعضِ جناحٍ
ليسألَ عن حالِ ليلى وحالِ محمّدْ
أما زالَ يسكنُ وجهيهما- مثلنا- هاجسُ الأرضِ
والحبِّ والياسمينْ؟!
أمْ أنّ الحروبَ.. الخرابَ.. الدمارْ
وفقدَ الأحبةِ بينَ الحصارِ وبينَ الحصارْ
تُحطّمُ فوقَ الوجوهِ مرايا النهارْ
فيغدو المعزّونَ كالميّتينْ؟!
أنا وسماءُ دمشقَ وأنت كبرنْا كثيراً
غدونا بحجمِ الهمومِ التي ما تزالُ بحجمِ البلادْ
فهلْ نبحثُ اليوم عن حلمِنا في بقايا الرّمادْ؟
وهل نستطيعُ احتواءَ الرّمال التي تنثني نحوَنا
كلَّ خوفٍ لِتُغري دِمانا ببعضِ احتمالْ؟
رمادٌ.. دماءٌ.. رمادْ
رمادٌ.. دماءٌ.. وألفُ سؤالْ:
تراهُ يعودُ إلينا بهاءُ الطفولةِ وردأ ندياً
يضيء سناهُ زماناً جديداً بأرضِ العراقِ
فيخضلُّ عشبٌ
ويونِعُ زهرٌ
وتندى غلالْ؟! ***
© 2024 - موقع الشعر