رسالة الى صلاح الدين - عبدالرحمن العشماوي

أسرج الصبر على الباغي خيولا
تطرب الميدان ركضاً وصهيلا

واقتحم أسوار خوفٍ شيَّدتها
يد أعدائك كي تبقى ذليلا

سُلَّ من فجرك سيفاً عربياً
واتخذ في جبل الصمت سبيلا

وإذا ما سارت الأحداث شبراً
فاجعل السير إلى الأحداث ميلا

وإذا واجهتَ في الدَّرْبِ جبالاً
شامخاتٍ فتخيَّلها سهولا

أيها الشاتمُ وجهَ الليل
أوقد شمعةً في الدرب واستصحبْ دليلا

خذ بيدي وارحل إلى الماضي فإني
لم أزل أتعب أيامي رحيلا

وإذا ما جئت حطّين فدعني
أسرج الشوق إلى الماضي خيولا

وانتظرني ريثما أقضي حقوقاً
لفؤادٍ يحملُ الهمَّ الثقيلا

وأنادي فارساً مازال يحمي
حوزة الدين، ويأبى أنْ يميلا

جعل السنة للناس طريقا
ومحا البدعة منها والحلولا

ضرب البحر بسوطٍ من إباء
فغدا البحر له رهواً ذلولا

يا صلاح الدين ما جئت إلينا
خامل الذكر ولا جئت ضئيلا

جئت والرمضاء تشوي كل وجهِ
وأرى وجهك وضَّاء جميلا

بين قلبينا جسور من إخاءِ
مدها الإسلام فرعا وأصولا

لم أزل أبصر في كفك سيفاً
صارماً مازال للكفر مزيلا

لست بالظالم في القتل ولكنْ
لم تشأ أنْ يمكث الباغي نزيلا

ما قتلت السهروردي، ولكنْ
عَبَثُ الأفكار أرداه قتيلا

رُبَّ كفرٍ جاءَنا مِن فيلسوفٍ
يطلق الدعوى ولا يُعطي دليلا

يُفسد الأذهان يُلقي في مداها
حجر الشك فتزداد ذهولا

يا صلاح الدين ما جانبت حقاً
حين طهَّرت قلوباً وعقولا

لم تدع للمذهبيات مجالا
كَمْ أذاقتنا مِن الذل شكولا

يا صلاح الدين ما جئتك إلا
وأنا أكره أن أنوي القفولا

كيف أبقى في كيان عربي
لم يزل يقرع للذُّلِّ الطبولا

لم يزل يمنح للغرب ولاء
ويرى للذُّلِّ في النفس قبولا

في رُبانا ألفَ بستانٍ نراها
ونرى مِن حولها ظلاً ظليلا

غير أنَّا ما رأينا في رباها
بلبلاً يشدو ولم نسمع هديلا

وقف المركب والرُبَّان أمسى
يُتْبِعُ الأمواجَ خوفاً وذهولا

واشتكى الشاطئ من جزرٍ ومدِ
أتعب الرمل صعوداً ونزولا

بلغ الأعداء منا ما أرادوا
ومشوا في أرضنا عرضاً وطولا

سمموا الأفكار حتى صار فينا
مبدعاً مَنْ ينشر الفكر الدخيلا

جعلوا للفن ميزاناً وقالوا
لا نرى للدين في الفن سبيلا

عزفوا عن شعر حسان وكعبِ
ورأوا (إليوتَ) رمزاً و(أخِيلا)

أشعلوا ألفَ فتيلٍ للمآسي
ليت قومي أطفأوا منها فتيلا

لا تسلني عن بني قومي ففيهم
يشرب (الجدُ بن قيس) سلسبيلا

ويرى فيهم بلالٌ ألفَ عين
ترسل النظرة للكبر دليلا

لا تسلني.. يا صلاح الدين، قومي
حبسوا النهر فلم يَسقِ الحقولا

كان في أيديهم السيفُ صقيلا
فغدا ملمسُ أيديهم صقيلا

يحلم التاريخ أن يأتي إليهم
ثم يأبى حين يأتي أن يُطيلا

أنفسٌ عشَّشت الأحقاد فيها
وعيون لا ترى إلا الحجولا

دولٌ شتى وأذهانٌ حيارى
وقبيلٌ يُتْبِعُ اللوم قبيلا

في حماها أصبح الشهم ذليلا
وغدت في ظلها النملة فيلا

لا تسلني يا صلاح الدين، لكنْ
سائل الحسرة والقلب العليلا

سائل الحيرة في نظرة طفلٍ
واسأل الحسرة والطرف الكليلا

سائل الأحزان في وجدان سلمى
وسل الدمع الذي يجري سيولا

سائل الأحجار في حيفا ويافا
وسل القدس المعنَّى والخليلا

لا تسلني، فإنْ أصرفُ وجهي
خجلاً منك، ومازلتُ خجُولا

يا صلاح الدين ما هوَّلتُ أمراً
في الذي قلت ولا زوَّرْتُ قيلا

أنا مَنْ أحملُ في قلبي وفاءً
لبلادي أنا مَنْ أهوى الأصولا

لا تسل عني فصحراء جراحي
لم أجد فيها مبيتاً أو مقيلا

سرتُ فيها وأنا أسأل نفسي
كيف ألقى شربة تشفي الغليلا

أو ما تعلم أنَّ الليل أمسى
في عيون القوم فجراً وحقولا

أو ما تقرأ في دفتر حزني
قصة المجد الذي أضحى طلولا

أيها القادم والليل لباسٌ
وضياء البدر يزداد شمولا

جرِّد السيف وقدِّمه إلينا
قد نسينا لمعاناً وصليلا

وتعلمنا من القول صنوفاً
وتحدثنا عن المجد طويلا

ورفعنا وخفضنا وجمعنا
وطرحنا ورسمنا المستطيلا

وبنينا ألف قصر من فراغ
وبلغنا بالأماني المستحيلا

كم سمعنا صرخة من ثغر طفلٍ
حقها أن توقظ الحُرَّ النبيلا

فمنحناها وجوماً ووقفنا
نُتْبِعُ الأحداثَ إحساساً قتيلا

يا صلاح الدين أعطيتُك سمعاً
يتمنى منذ دهر أن تقولا

قلْ فإنَّ القلب أضحى باشتياقي
روضةً ترجو مِن الغيث الهُطولا

وهنا جاء إليَّ الصوتُ فخماً
عربيَّ اللفظ موزوناً جميلا

أيها الشاعر كم يُثلج صدري
أن أرى مثلك لا يرضا نكولا

إنما يمنحك المجدُ مكانا
في الذُّرى منه إذا عِشْتَ مَثِيْلا

لي سؤالٌ واحدٌ أُلقيهِ فيكم
وجوابي أَنْ أرى فعلاً جليلا

كيف ترجو أمةٌ عزاً ونصراً
حين تَنْسَى الله أو تَعصي الرسولا

© 2024 - موقع الشعر