قراءة في نص "فائض النار" للشاعر أحمد منصور

للكتاب: سالم الفروان،


أبوظبي - سامح كعوش:

أن يقرأ الشاعر خط رؤاه بنفسه، ثم يترك أثراً خفياً في رمل يديه، فهو الشاعر فائض الحاجة، والكلام لا جدوى البكاء، ولأن الكلام في اليومي الممل والعادي الرتيب ليس كلامه، يقع الشاعر في السأم والكآبة.

وأن يعزف الشاعر على قيثارة الضجر بكائياته العابثة بالوقت، واثباً فوق أعشاب موسيقاه ومياه عينيه، يعني أن يعلي شأن الذات في لعبة الاختباء والعد، كما يفعل الأطفال، لكن، يختبئ الشاعر بظله ويعلق هناك.

وأن ينثر الشاعر محبته حتى تنضب، ويشد على كل وتر ليغني للوقت الفالت من بين يديه، يعني أن يمتلئ بالنور، ويستوي بالنار، لأن روحه وشجت بالرمل، ليتوارى، ويتوارى معه كلّ ما كان ذات مرة منه، يقول أحمد منصور في نصه “فائض النار”:

“لا زمن ينبش جراحي الآن

فلا جرح لي ولا زمن هناك

ولا عزاء”

الشاعر يكتب الزمن، ويلغيه، ويبدأ المسافة إليه بالآن كأنها الأبد، ليقول إن الروح استوت بالنار، وتطهرت بالرمل، فهو يقفز فوق الحد الآن، في لحظة الكشف المجنون، مصطاداً فراشات الشغب ليبتسم، كطفل يلعب بالعتمة يجرها خلف المحيطات، بعدما ملّ انتظار الشاطئ، أو ليشعل شمساً على المدينة، كأنه التنين، مبشراً باحتراق مقدس، يهطل بالنار على الحقول لترتوي بالنضوج المعجّل.

الشاعر يروي حقول الكلام، ويشعل فتيل اللغة لتنفجر بين يديه عندما يتوقف عن العد، مطلقاً العنان للغيمات كي تحلّق بهدأة، كما الثواني القطنية أو تنفسه في العتمة. والشاعر يعاين أشياءه بلهفة كي تمطر بين يديه، لغةً لا يقولها الكلام، لكن تسترق السمع إلى المرآة لتحكي. وهو الذي ينتمي إلى الماضي ليلغي حدود حاضره الفارغ، يقول:

“لا خرافة حب بائس

ولا قبلة عالقة على شفاهي

ولا ابتسامة في جيبي العلوي

لا عدو أرفع له راية بيضاء

و لا صديق أتوجس مكائده

لا حيرة تسبق الاختيارات

ولا ندم يعقبها”.

يحتمل أحمد منصور لعنة “الآن” لينتصر عليها بها، فعندما لا يجد الوقت غايته يقف، وعندما لا يجد الوجود معناه، ينتحر فيستوطن الخرافة، وبالحلم يقوى الشاعر على أشياء الواقع الضبابية، فينقض أسبابها ليجد سبباً واحداً للبقاء، بين الوطن الضيق به، والخرافة البائسة، حول حكاية الزهر المتردد بين “أحبكِ أم لا”، ورواية السموأل والتضحيات الكاذبة، كأنها الفراغ، يرمي بالشاعر بين أحضان التعب من الكلام، فيسقط في الألفة.

يكتب أحمد منصور سيرة الكائن الإسفنجي، ربما ليقدر على معاندة التيار، بانهزامية سوريالية ساخرة، تضحك من مسميات الوجود الساذج حوله، الطرقات، القاعات، الشرفات، الشاشات، القرابين، القبور، الدور، وانطوائية مرضية حادة، تحاربها مجتمعةً لترفضها بمرادفات الرياء والربا، والدسائس، كأنه يعلن الحرب على المدينة النائمة، العائمة على مستنقع فراغها الخاوي، في مقارنة غاية في العمق والمفارقة، بين الرغيف المحمر بالدم (عالم الفقراء)، والبطون بالأقدام (عالم الأغنياء)، فالشاعر يبني عالمه من حيثيات الحياة ويومياتها المثقلة بالتناقض، فهو الشاهد على ما سجّلته عيناه في الماضي، كأنه “ماضي الأيام الآتية” في نبوءة قصيدة النثر العربية منذ البدايات، يلغي الماضي وينعت الحاضر بالكذب، ليقع المستقبل في الرياء أو الزيف المنكشف.

يبحث أحمد منصور عن الألفة المفقودة، في عالم ينكر عليه فرحته حتى بالوجع، صرخته في وجه الذئاب والذباب، احتجاجه الأزلي على بقاء فتاته معلقة في الهواء بلا كفن، وهو الشاعر بروحه المنهكة التي ذوت كشمعة سادرة في كون مطفأ، وهو الشاعر بأوطانه التي استمرأت ذوبانها ولم تلفت إلى جرحه المقيم بين طعنات الخناجر تلمع في خاصرته وفي روحه.

كأنه يستعير فعل الماضي حالاً تتجدد بالفعل المستقبل، وكأن اللغة تهرب من قبضة يديه فيلتقطها بأسنانه، ويكزّ عليها حتى تقع في الألم لتموت، وهو يلغيها بالألفة المصطنعة.

كان يفعل كلّ ذلك وأكثر، ويفعل كلّ فعل داخل السرداب، وفي كل سرداب خبيئة، ولكل خبيئة أفعى، وللغة أحمد منصور أكثر من معنى، يقلّب المعاني لتصطف كيفما اتفقت يداه، يمسح عن أحذية السراب الغبار بدمعة يمسحها بعدها بدمعته في الظل.

أحمد منصور يكتب عن الوقت كأنه عدوه، بين اللحظة واللحظة، لتستمر الحكاية وينتفي التعب، باعثاً نظرته إلى القرى البعيدة، يعدّ القهوة لزوار لن يأتوا، غارقاً مع حطام السفن في البحار، أو هو حطام روحه الحيرى ولا تجد مناصاً من الغربة البلورية الكاشفة، تتعرى النفس حينها كما لو لم تبزغ الغواية قبلاً ليستنير الشاعر بها، ويسير إلى صوابه في الحكاية.

والشاعر صديق الحوذي، ينتظره كل ليلة، ليجر معه العتمة خلف المحيطات، والريح، ليدربها عند

المواسم، والخرافة ليدعكها بماء الحجر، ويعلق النياشين على كتفيها، والحياة، ليعيد ترتيبها صرخةً صرخةً، منذ أول ولادة حتى آخر موت. وبعدما ينتهي من إعادة ترتيبها، يشيع فيها فوضاه الشاعرية الجميلة كأن يجر لكل صخرة نائية جبلاً، ولكل وردة وحيدة حقلاً من الأزهار، ويمد كل ألم بصرخة زائدة عن حاجته، يخبئ المسرة من الأذى، ويحوك للغيمة مخدةً من ريح، لأنه الشاعر، سليل ساكني جبل “فوجي” و”الأولمب”، لأنه ابن الحكاية وراويها شعراً.

© 2024 - موقع الشعر