شاعر الحق والخلق والنص الدليل (قراءة في ديوان قيثارة الضجر للشيخ الشاعر حفيظ الدوسري)

للكتاب: محمد بن علي ،


شاعر الحق والخلق ؛ والنص الدليل

قراءة لديوان قيثارالضجر

للشاعر / حفيظ بن عجب الدوسري

................................

د محمود عبد الصمد زكريا

...................................

في صميم الرذيلة ؛ يكون للفضيلة وحسن السيرة فوح الحنين

إن اعتبارات كثيرة جداً بجانب الشعر تغري بالحديث عن الرجل ؛ الإنسان ؛ المُعلِّم ؛ السمح ؛ الفقيه ؛ الداعية ؛ الإمام ؛ المجاهد ؛ البطل ؛....

الشاعر / حفيظ بن عجب الدوسري ..

فهو عَالَم بكل ما تفتحه لفظة عالَم من فضاء دلالي .. غير أن موهبته المتوقدة دائما ما تجذب النظر إليها وتدفع بالحديث ناحية الشاعر وشعره ؛ لعل هذا الحديث يعبر إجمالاً عن العالِم

وواقعه وكونه ..

فإذا كانت القيمة في نظر الشعراء الصالحين ؛ وفي أغلب الأحيان تمثل انتقالاً من الواقع إلي الحق ؛ وحينما يتحول الخطاب من صيغة كان يجب أن يحدث كذا إلي صيغة لابد أن يحدث كذا فإن هذا هو مفهوم تجاوز الفردية إلي ما هو مشترك ..

وإذا كانت الحقيقة أن الفرد إذا قبل الموت راضيا ومرحباً به فإنه يدلل بذلك بما لا يدع أي مجال لأي شك علي أنه يضحي بذاته في سبيل خير يقتنع أنه يجاوز مصيره الخاص ؛.. وإذا فضل الموت علي إنكار هذا الحق الذي يذود عنه فلأنه يضع الحق فوق ذاته ؛ ويتصرف باسم قيمة يؤمن انها مشتركة بينه وبين الناس جميعاً .. وإذا كان لنا أن نسأل الآن : لماذا يثور الشاعر ويغضب القيثار لو لم يكن هناك في واقعه ما يستدعي الصيانة والإصلاح ؛..

فإن

هذا الديوان لشاعرنا / حفيظ الدوسري .. يغري بشكل خاص لا للحديث عنه باعتباره " قيثار الضجر " بل للحديث عنه كمرآة

لمجمل الموقف الأيدلوجي الذي يتبناه مشروع الشاعر عبر تجربته الطويلة مع الشعر – فن العربية الأول- قديمها وجديدها :

واسأل عن

( سالب ) العمر في ( موجب ٍ)

القادم المنتظر .

متي - يا تري –

يجمع الله

شمل الشتيتين

طال السفر؟!...................... (من قصيدة طال السفر )

وليسمح لي القارئ أن أضع هذه القناعة المتفتقة من خلال الأبيات الأربعة التالية في خلفية هذه المقاربة :

لا يكتب الشعرَ ؛ إلاَّ مَنْ يكابده ..

ناراً من الهمِّ والأحزان ِ والسهر ِ

نارُ القصيدة ِ تكوي قلبَ صاحبها ..

فينتهي بين داعي الشوق والكدرِ

الشاعر الحرُّ يمضي نحو غايته ..

في نصرة ِ الحق لا يخشي من البشر ِ

فاصعد إلي المجد واحمل تاجَ قِمته .. منْ صاحبَ الخوفَ لم يسلم من القدر ِ .

(من قصيدة قيثار الضجر )

ها هو ذا شاعرنا يتجلي بحضوره المتباهي من قمة المجد الذي اكتوي قلبه بناره ؛ وحمل تاجَه ُ ؛ ونصر به الحق..

ليمنحنا مقعداً في بيت الشِعر.. بيت التاريخ العربي..

ويذكرنا ؛ بل ويجلدنا بغياب الشخصية العربية التي لا تني تمعن في الكيد لذاتها ؛ وتمعن في تعميق نشوتها

بالتردي وهي تضجع

ممدة ًساقيها تحت فئ الانتحار ؛ تلك الشخصية التي ما زالت منذ سقوط الخلافة

الإسلامية بالأندلس وحتى الآن تعاني من التعثر والكبوات المتلاحقة التي لا تسمح لها ببرهة لتشخيص دائها وتوصيف دوائها ؛ فراحت تلوذ وتستغيث بكل اتجاه ٍ ومن كل فج ٍ فتاهت في خضم التناقضات ؛ وباتت جهودها

مشتتة ًعبثاً خارج واقعها

الحياتي وخارج وعيها

الثقافي ؛

حيث أمعنت في التماس خلاصها إمَّا من مراسيم ونظريات مفصولة عنها مكانياً ؛ أو نائية عنها زمانياً .. من حيث الأولي لها أن تعكف علي تمحيص رؤيتها لذاتها ومراجعة موقفها من تراثها وتأصيل ثقافتها .. والتحرر من انخطافها لهذا الفكر الليبرالي الذي بدا حاملاً علي عاتقه مسؤولية النهضة ..

وكأنها قد نست أو تناست قول شاعرها أبي القاسم الشابي :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة َ

فلابد أن يستجيب القدرْ

ولابد لليل أن ينجلي

ولابد للقيد أن ينكسرْ.... " من ديوان أغاني الحياة "

لم يعد مجرمو العصر هؤلاء الذين يجيدون إحكام ربطات العنق ؛ والتخطر بمباهاة خلال الصالونات الفخمة بقصور الضيافة الفارهة يتذرعون بالحب ويتعللون بالأخلاق والحرص علي المصالح العامة ؛ لقد أصبحوا راشدين لدرجة التبجح والتصريح بالكفر والقسوة والشذوذ ؛ ولم يعد السبيل إلي دحض ذرائعهم بالسياسة التي تستخدم لكل شئ حتى لتحويل القتلة إلي قضاة ..

تهب

إذن ثورة شاعرنا مطالبة ً بالتحرر والاستقلال ؛ والرقيّ والتقدم ..

لتضعنا وجهاً لوجه أمام اختبار الكرامة بما هو اختبار وجودنا الإنساني في مرجل العصر الفائر بالغليان ..

ها هو ذا يستغيث بإبداعه ؛ فيفور تنوره ويرمي بحمم

الأسئلة :

هل صاحب الشِعرَ قيثارٌ من الضجر ِ ..

وهل بكا الحرف ُ في دوامة ِ الوتر ِ؟

وهل تساءل صمتُ الريح ِ عن قلم ٍ ..

يثور في عتمات الذل ِ والقهر ِ ؟

وهل شفي الحرفُ محروماً بدورته ِ ..

علي الدفاتر ِ أو في لمحة ِ الفكر ِ؟

وهل تفجر نورُ الصدق ِ في لغة ٍ ..

صماء ؛ بكماء ؛ لا تجري مع البصر ِ؟

وهل تناسلت الأفكارُ في حلم ٍ ..

يموت قبل ورودٍ فيه ؛ أو صَدَر ِ ؟

وهل سَمتْ في سماء ِ الكون ِ قافية ٌ ..

لا تجتني حسنها من رائع الصور ِ؟

وهل شدا بالمعاني غيرُ شاعرها ..

مَنْ صاغها من بنات الفكر ِ كالدرر ِ؟

وهل رثي شاعرٌ من دون عَبرته ِ..

وحسرةٍ تتوالي فيه بالضرر ِ؟

فيضان من الأسئلة التي تجرفنا إلي سيرتنا الأولي لنبحث عن مواقع نلوذ بها بعد أن تراكمت هزائمنا وانكساراتنا علي كل من المستويين : الداخلي والخارجي ؛ وبعد أن

كشفت الأنظمة الحاكمة عن وجهها القبيح ؛ وفشلنا تاريخياً في التواصل مع ماضينا المجيد؛ وسقطنا فريسة ً للاستبداد وأسوار السجون والمعتقلات :

زنزانتي ..

تلومني جدرانها .. ألوانها

تقول : يا شاعرنا .. يا شيخنا

عذبتني ؛ مزقتني

بكل ما في الأرض من أحزان

وكل ما في الناس من بيان

فدع .. بياضي ناصعاً ؛ وسالماً

من صولة الطغيان علي بني الإنسان .." من قصيدة ومضات "

تلك

المعزوفة علي أوتار قيثار الضجر قد أشارت بطوفان أسئلتها إلي ما آل إليه حال العربي المسلم الذي لم يعد يملك إلاَّ الذكري التي تجتاحه ؛ والحنين والشوق الذي يلم به ؛ بين حين ٍ وحين

:

تجتاحني ثورة الذكري فأطفئوها ..

في عالم الصمت ِ بالتخدير والعمل ِ

يلم بي الشوقُ أحياناً ؛ فألجمه ..

بالصبر ِ والدين والأخلاق ِ والخجل ِ

من ها هنا تحديداً ينبع إبداع حفيظ الدوسري المحمل بالجراح والخسارة قادماً من هناك

.. من التراث .. التاريخ ..الذاكرة .. ملتحماً بواقع مجتمعه

العربي وأمته الإسلامية ؛ ليسند الروح - هنا - في لحظة الانهيار الكليِّ لحاضر لم يعد أهلاً ليأخذ بأيدينا إلي المستقبل لأنه كان – وما يزال – حاضراً يفتقد شروط تاريخه الممكن .

يحكي أن القصة كانت في المرآة

دون شفاه .

يحكي أن الموت تناهي يفغر فاه

دون حياة

يحكي أن الصوت تفاني في منفاه

دون وفاة

يحكي أن الريح اختارت دار الشاة

في مرساه

يحكي أن خيام القرية في مرعاها

دون سداه................" من قصيدة يحكي أن "

وجد شاعرنا – قيثار الغضب –

إذن أن عليه أن ينحني علي بئر الماضي ؛ لا كما يفعل المؤرخون وإنما ليتساءل عن الجوهري في هذه الحياة ؛ وهذا التاريخ ..

ماذا عن الزمن البعيد ؟

يا أيها الزمن الجديد

قل لي بربك يا قريب

ماذا عن الزمن البعيد ؟

ولأن الشعر لا يحبذ الصمت عندما تسود رياح القلق والألم ؛ فإن النضال ؛ وهزات الحياة تستدعي عواصف الشعر وثورة الشعراء ..

سأضرب فوق اليمين الشمال

وأكتب بالحب فوق الرمالْ

إذا كان للموت طعم ٌ مريرٌ

فقد ذاقه قبلنا خيرُ آلْ

سيحكي لنا كل مجد ٍ أصيل ٍ

بأن المنايا تفوق الخيالْ

سلام علي كل صوت ٍ جميلٍ

تباهي بنا حين مات الجمالْ

إذا لم يكن في المدي ما يقول

فماذا سيجدي الهدي من مقال

لك الله يا زمن الصالحين

فقدناك حين اعتلتنا البغالْ........." من قصيدة لك الله يا زمن الصالحين "

هكذا ؛ وعبر لحظات الانحسار هذه

يطل صوت / حفيظ الدوسري غير عابئ بما يتناهشه من المقولات من بعض النقاد والشعراء الذين أدركتهم لعنة العمالة والتبعية العمياء : فمن قائل إنه ليس مبدعاً ؛ لآخر يري فيه شاعراً سياسياً بسيطاً ؛ بل شاعر جاهلي كلاسيكي يعكف علي أغراض الشعر القديم كالهجاء والرثاء والغزل ؛ وأن خطابه هو نفس خطاب السلطة الدينية ..الخ ..

وعلي كل حال فليس خافياً علي المهتم بثقافة الإبداع أن هؤلاء قد شنوا هجومهم علي كل الجبهات ليوسعوا من رقعة الأرض التي يقفون عليها ولم ينج منهم إلا المبدعون الذين ارتضوهم آباء غير شرعيين لهم وحتى هؤلاء الآباء تعرضوا أيضاً لمناوشاتهم .

بيد أن خطاب المحاكمة هذا – الذي تراجع عنه البعض – لم يكن صائباً لأنه أراد أن يحاكم الشعر بمقاييس شعرية أنانية قائمة علي قناعات خاصة تصادر ما عداها .

وإذا كان الجهاد مسألة أكثر جدية من أن تترك للعسكريين فإن الشعر والإبداع أيضاً أكثر جدية من أن يترك لبعض النقاد والشعراء المغرضين

.. ومحاكمة الشعر بمقاييس غير شعرية

هي إهدار للحقيقة ؛ ووضع للشعر في خانة غير ملائمة له .. لأننا لو نظرنا إلي مشروع / حفيظ الدوسري – ومن هم علي شاكلته من الشعراء المحافظين أو الأصوليين -

كما نظر البعض علي أنه لا صلة بينه وبين الإبداع لحملناهم برمتهم إلي رف مُهمل ..

وبدا هذا الحكم أشبه بحكم العميان علي ماهية ما لا يرون ..

ولو أدمجنا هذا المشروع بشئ من التبسيط في الأيدلوجيا السائدة لحولناه إلي شعارات حماسية ونمط من الإعلام .. ولذلك وجب علي من يتصدي لمثل هذه المقولات أن يطرح مشروع شاعرنا / حفيظ الدوسري داخل سياقات تطوره – وهو يؤسس ذاته منذ " شوارد البيان " ومروراً ب" لحظات ندم " و" الأقصى والشرف " و" أنا وليلي : و" نجوم السماء " و" لغتنا والقتلة " و" سرطان العصر " و" نبض الخافقين " و" ليل الغربة " و" ضياع دار" ," أغاريد العذاب " و" أحلام مجنون " و" قحط المحبة "

و " ومضات المسيرة الشعرية " ..

وصولاً

إلي هذا الديوان " قيثار الضجر " – ثم – وهذا مهم أيضاً – أن يطرحه في الثقافة السائدة ضمن خطابات أخري .. ولتسمحوا لي بأن يطرحه أيضاً علي الجمهور – الترمومتر الحقيقي لقياس درجة القبول والرفض -

..

وبدءاً تري هذه المقاربة أن الشعر يستعصى علي التعريف ويستعصى علي التحديد فهو كجمالية لغوية واجتماعية معرفية لا يمكن القبض علي ماهيته والاستحواذ عليها دُفعة واحدة ً .. لذلك تعددت فيه القناعات وكثرت فيه الأقاويل ؛ ودب الخلاف في بيت الشعر بين النقاد والشعراء والمثقفين مما يدل علي أن الشعر حقيقة لكنها الحقيقة النسبية كحقيقة الجمال الحسي ذاته .. تتحكم في موازينه الثقافة والشخصية والميول والرغبات والموروث والقناعة بما للشعر من طرائق وآثار وغايات .. بشرط أن يكون لهذا الخطاب – رغم تنوعه – ما يبرره شعرياً بعيداً عن الضحالة وتراكم الإيهام أو التوهم وذلك من أهم ما يدعو إليه مشروع شاعرنا ...حيث :

" القلم السائر بلا هدف يكتب في الفراغ علي أوراق الهواء " ..

وحيث :

" الخرافة لا تنتج إلا الخرافة ؛ والعاقل لا يبني علي الهواء ".

[COLOR=#2A2A2A]( من ومضات المسيرة الشعرية – مقدمة ديوان قحط المحبة )

وحفيظ الدوسري – كما يدل مشروعه -

شاعر عروبي/ إسلامي/ رافض / متمرد / ثائر .. تشبع بالحضارة الإسلامية التي أضاءت العالم

وجاء ليري الفقراء والمستضعفين وهم ينحدرون في الطرقات بلا أحلام .. تتآمر ضدهم الأنظمة المؤسسية ؛ وتعتصر دماءهم الغربة ؛ ويري الأمة وقد خيم عليها ظلام ثقيل ..

ومن هنا انطلق مشروعه الذي لم يكتمل بعد – حيث ما زلنا ننتظر المزيد والمزيد -

من مرتكز هام ناتج عن إيمان عميق بدور الشعر كفعل اجتماعي وإيماني

أو كجمالية ثقافية ترتبط بالمكان والزمان والناس والذاكرة الجمعية ؛ وتتوحد دلالتها عبر الجماهير بفعل الإبداع الذي هو فعل مقاومة من أجل تحرير الروح الفردية والجماعية ؛ ..

وإذا كان فعل الإبداع لديه هو رسالة ومسؤولية

  • كما ذكر هو ذلك

دائماً -

فهو إنما ينبع - لا من قدرة الشعر علي الترفيه والترويح – وإنما من قدرته علي مقاومة الوعي الزائف والقبح والاستسلام بما هو حامل لوعي ٍ مضاد ٍ للواقع المتردي ..

"عليَّ أن أكتب الأشعارَ محتسباً

وما عليَّ من الأقزام والهمل ِ

شعري هو الحق لا أرضي به بدلا

ولو ملكت جميعَ الناس ِ بالجمل ِ........." من قصيدة حقيقية "

" يا نفس لا تتراجعي ؛ فتهاني

وتقدمي نحو العلا بسنان ِ

سيري إلي العلياء إن حياتنا

تجري علي قدر ٍ بلا إمكان ِ

يا نفس لا تخش فإن لساني

في الحق لا يخشي من الطغيان ِ

الناسُ تحيا في الحياة ِ بدينها

وتموت إن باعته بالأثمان ِ

من سار بين الناس ِ سيرة راشد ٍ

فله من التاريخ تاج زمان ِ

من عاش بين الناس عيشة خامل ٍ

فسيرتدي بالذل ِ ثوب َ جبان ِ

والله لا أحيا حياة مذلة ٍ

والناس ُ تحت ولاية الأوثان ِ

والله لا أرضي الخضوع وأمتي

تجري علي قلق ٍ بلا ربان ِ ...." من قصيدة طلاق "

إننا ببساطة أيها السادة إزاء شاعر هو صوت للمشروع العربي الإسلامي – عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية -

ولذلك جاءت قصيدته محملة بالبعد الثقافي والبعد السياسي وتتجه دلالتها إلي أبعاد أخري كالبعد الإنساني والتحريضي بما هو فعل نضالي متكئاً علي استدعاء الموروث الشعري والتاريخي والديني والأسطوري وتطويع ذلك كله

للحظة الكتابة ؛ مع الوعي بعدم خلخلة بنية القصيدة والحرص علي عدم تشظيها ؛ وتشتتها كي تكون قادرة علي التواصل ودمج السياسي الفكري ؛ والعقائدي الإيماني

بالرؤية الخاصة للشاعر ؛ التي تنتج دلالتها عبر بناء لا يتوحد إلا داخل الجماهير – وهو سر وفلسفة

وضوحه وبساطته وشفافيته وعدم ميله للتعقيد الدلالي والإغراق في التصوير ؛ والتهويم في آفاق الخيال اللانهائي - ..

وثمة إيمان بأن الماضي هو جوهر التاريخ ..

ولعله يعي جيداً أن الماضي الذي هو جوهر ليس لنا طاقة أن نعيد نسخه ؛ وإنما علينا أن ننقح النسخة ؛ وننتقي أو نصطفي منها بما يتلاءم مع لحظتنا الآنية بحيث يمكننا من العبور نحو الآتي ؛ إنها لحظة الخطر التي تتجلي فيها الذات التاريخية ؛ تلك التي تدفع المبدع للبحث عن الحقيقية وهو يعاين لوحة التاريخ / التراث ؛ كي يناضل وبشراسة ضد سيادة الزيف ؛ وضد سيادة الوجه المنتصر دائما ً والذي يحجب من ورائه خداع السلطة وتواطؤها وتزييفها للوعي ..:

ما عاد يجديني بعيدُ قرارها

جاءت علي صلف ٍ بلا إذعان ِ

هاج القريضُ عليَّ حتي هالني

فخرجت من سجني ومن سجاني

ما عاد يجدي كتمها في داخلي

ثارت عليَّ كثورة البركان ِ

يا أيها الأنفاس ماذا يرتجي

من عاش بين الناس كالحيران ِ

يا نفس لا تتراجعي ؛ فتهاني

وتقدمي نحو العلا بسنان ........" من قصيدة طلاق "

إن الشاعر مكتشف إمكانات إنسانية من خلال اللغة والإيقاع والصورة ؛ بحسب وضعه ككائن يضرب بجذوره في عمق تربة التاريخ ويطاول بجذعه علي أرض المعيش واليومي ؛ أي يعيش المنحي الوجودي للإنسان الذي يقف علي جانبيه ومن داخله أيضاً أمور كثيرة كالحياة والموت والقلق والمعقول واللامعقول ؛ والعلاقة بين زمان مضي وزمان كائن ؛ إنها شبكة من الظواهر يتلقاها وعي الشاعر ..؛ وهو وعي يكتشف ويتنبأ .. إنه الوعي الذي يري أن الإبداع استشرافي ..

لا يحرّض فقط ؛ وإنما يكتشف العالم من حوله:

" إذا لم يكن للمرايا بريق ٌ

فماذا ستعكس غير الهوان

رهان هو الزمن المستبد

فمن يا تري سيحيل الرهان

علينا بأن نتخطي الحدود

حدود المعاني بلا ترجمان

أصارع أمواج رمل الصحاري

وموجك أرحم لي واليدان

تدثرت بالصمت والليل يحكي

لسُماره ثورة العنفوان

فيا أسفي لم يعد لي سلاح

يدافع عني شرور السنان

عليَّ بلوغ الأعالي لأنجو

وليس عليَّ احتواء البيان ..." من قصيدة حدود المعاني "

ثمة فراغ قيمي أحدثته الأمة التي أصبح نص التراث فيها هو الغائب الحي

بينما نص الواقع هو الحاضر الميت ..

إن مشروع شاعرنا / حفيظ الدوسري

المستند إلي الحاضر بما هو واقع ؛والتاريخ بما هو تراث وصيرورة يعبر عن أزمة الوعي في مجتمع حولته المركزية إلي كائن بلا ذاكرة .. إنه واقع لا يستطيع

حتى الجلوس في غرف المفاوضات ؛ وإنما عليه في أحسن الأحوال أن يجلس صامتاً في الغرف المجاورة ..

أي تهميش ؛ بل أي موات

في لحظة الموت لا يوجد إلا الموت الذي لا يستطيع أي شئ أن يخترق جداره حتى العلاقات ذاتها لا تستطيع اختراقه ويحتفظ كل شئ في هذه اللحظة بقيمته في وجوده وثقله ومدي تأثيره .. هكذا .. وكأنه علاقة علي فجيعة لم تكن مباغتة .. إنها مجموع ما طال الإنسان العربي المعاصر الذي يفتقد إلي ميزان العدل ليقيم أود الروح .. وطال هؤلاء الذين هبّوا علي نداء العدل فيمموا شطره ؛ فكانوا قليلا ً من الآخرين

كثلة من الأولين ..:

" سأكتب عن فارس

جاء قبل القيامة

سأكتب عن فارس ٍ

واجه المستحيلْ

فارس لا يعشق الكذب

ولا من يكذبون

فارس .. رغم الظنون..

فارس في محجر الشمس نما

عبر القرون..

ترهبه الدنيا ؛ وتغشاه العيون..

فارس ٌ ؛ يحمل سيف الحق

لا يخشي المنون..

فارس يعبر حد الكون

يمضي ؛ لا يهون ....." من قصيدة فارس واجه المستحيل "

أن قصائد مثل

لتدعو بضرورة الوقوف حيالها لمناقشة معني الجهاد ملتبساً؛

بمعني التمرد .. ولكني هنا لن أناقش القضية من خلال مفهوم الجهاد الإسلامي حتي لا أتهم بالممالئة وتبني خطاب يقدم مبررات البراءة .. بل سأذهب إلي أبعد من ذلك بكثير لأسوق كلاماً ليس خارجاً من عباءة العقيدة الإسلامية ؛ وسأعتبر الجهاد هنا هو نوع من التمرد ..

فكيف يجب أن ننظر لهذا التمرد من منظور حيادي أخلاقي

متطور ؟

هل تقبل هيئة المحكمة / المعاصرة

/ المتحضرة

/الموقرة برؤية ٍ غربية صرفة في هذا المقام .. إذن يقول " البير كامو " طي كتابه " الإنسان المتمرد ":

"فكرة وجود حد.. فكرة وجود حق ما ..

ما الإنسان المتمرد ؟ إنه إنسان يقول : لا.. ولئن رفض فإنه لا يتخلي ؛ فهو أيضاً إنسان يقول : نعم منذ أول بادرة تصدر عنه ؛ لكنه يري فجأة أن الأمر الصادر إليه غير مقبول ؛ فما فحوي هذه " اللا " ؟ .. إنها تعني أن الأمور استمرت أكثر مما يجب ؛ وأنك غاليت في تصرفك ؛ وأن هناك حداً يجب ألا تتخطاه ؛ خلاصة القول أن هذه اللا تؤكد وجود حد .. حركة المتمرد إذن تستند إلي رفض قاطع لتعد لا يطاق وإلي يقين بوجود حق يريد أن يصونه ؛ إنه بصورة ما يجابه المر الغاشم الذي يمارس عليه بعيدا عن الحق المقبول .."...

[COLOR=#2A2A2A]( الإنسان المتمرد – البير كامو – ترجمة نهاد رضا – منشورات عويدات – بيروت / باريس - ص 18 )

تري هل ذهبنا بعيداً ؟

جاهد ؛ فدربك يا أخي درب اليقين

واحمل سلاحك في نحور الظالمين

واضرب وجوه الكفر في كل المدي

واثبت ؛ وجدد عزمة النصر المبين ..." من قصيدة الله ما أحلي الفدي"

الأنظمة السلطوية غامضة ؛ ومبهمة ؛ وخطابها مراوغ ؛ وهو – أي خطاب السلطة – استعارة كبري للتردي ؛ وعماء البصيرة ؛ وبدل أن يواجه الإبداع تلك السلطة بوعي ثوري يعيد صياغة الواقع ويفجر ثورته ؛ راح يفجر اللغة ؛ واستبدل الثورة الفعلية بالثورة اللغوية ...

هذا التفجير الذي تبناه قطب من أقطاب الحداثة يستعير كنيته التي يشتهر بها من المثيولوجيا الإغريقية

"أدونيس " – في حين أن ليس أجمل من اسمه الحقيقي / علي أحمد سعيد - وتبعه البعض لم يكن لوجه حقيقة ما بقدر ما كان لوجه الأيدلوجية التي لا تؤمن بشئ إلا بذاتها والتي راحت تضرب خيمتها بعيداً عن منازل الحي والأهل والجيران .. في خطاب كهذا لا شئ يثبت ؛ بل الشئ دائماً معرض للتفكيك والتدمير .. وهكذا يصبح المشروع الإبداعي المبهم رديفاً للسلطة بما هي سلطة غير مبررة جماهيرياً ؛ لذلك فإنها تتحصن خلف متاريس لا إنسانية مفصولة عن حاضرها زمنياً ؛ ومفصولة مكانياً عن العالم ؛ ومفصولة روحياً عن رعيتها مما يدعم وجهة نظر هذه المقاربة التي تري تطابقاً بين السلطتين : سلطة المؤسسة ؛ وسلطة النص المبهم التي عززها صاحبها بانفصاله عن المجموع وعن اللحظة حيث عكفت الذات علي نولها اللغوي الاستعاري ؛

وتضخيم " أناها " .. لقد عاصر شاعرنا / حفيظ الدوسري كل هذا ؛ واشتبك معه في جدل طويل ؛ وانحاز لجماليات الوضوح ؛

ليواجه ظلام الواقع .. إن جماليات الوضوح لا تعني الاستهلاك أو السطحية وفي استطاعة هذه الجماليات أن تنفتح علي إمكانات العالم إنها فوق هذه الأرض ..شاعرنا إذن

يطمح إلي إعادة القصة الكبرى للتاريخ العربي من خلال الالتزام وعدم المضي نحو المجهول .. فالتحلل من الالتزام يدفع بالمبدع إلي خفة لا يبررها شئ إلا ادعاء نوع من الحرية التي تتحول في أحايين كثيرة إلي فوضي .. والأرجح أن الخطاب الثوري لدي الملتزم دائماً ما يتمسك بالغناء .. والشعر في أصله كلام قبل أن يكون كتابة .. وسلطة الغناء لها نشوة .. والإنسان ينتشي كي يمتزج بالعالم بصورة أقل صعوبة ومشقة .. لا تريد الثورة أن تدرس أو أن تفجر اللغة ؛ بل تريد الثورة من الناس أن يلتحموا بها ؛ وبهذا المعني فهي غنائية والغناء من ضروراتها ؛ وحضور الموضوع من أسسها .. وشاعرنا غنائي بطبعه

وهو صاحب رسالة هي موضوع مشروعه الشعري ..

وهو نقيض شاعر الحداثة المزعوم الذي يقول الشعر لا ليعلن عن موضوعه وإنما ليمحو هذا الموضوع وذلك باتجاهه إلي الأعماق كي يري المجهول أو يعثر علي جنة " رامبو " .. كي يري ما لا يُري ويسمع ما لا يُسمع .. فيغرِّب المعني؛ حيث

الأهم

عنده هو طريقة القول لا المقول والبنية لا الوظيفة ؛ فعند شاعر كأدونيس مثلا أنه من علم جمال الكتابة أن تكون نقطة بين نفي المعلوم وإيجاب المجهول ..

لكن جماليات الكتابة عند شاعرنا هي علي العكس إثبات المعلوم ونفي المجهول ..

وبعد ...

ثمة ميزة هامة من مميزات شاعرنا / حفيظ الدوسري ؛ هي جديرة بالوقوف أمامها يجليها هذا التدفق المتصل؛ وطول النفس الشعري ؛ وتوفر الحس الدرامي ؛ وتباهي الغنائية ؛ ورقة العزف مع تنوع المقامات والبحور وكل ذلك مما يدعونا لضرورة الإشارة لشاعرنا بأهمية استثمار هذه السمات لإنتاج مسرح شعري .. أعتقد أن قصيدة " الهم ؛ والهم الإسلامي " المثبتة طي هذا الديوان ؛ والتي تنساح علي مساحة اثني عشر صفحة من الشعر الغنائي العذب المتنوع الأصوات والمقامات والقوافي وبحيث يفضي كل صوت إلي الآخر بسلاسة وعذوبة متناهية .. هي أوبريت متكامل لا ينقصه سوي عملية إعداد بسيطة تقوم بتوزيع المقاطع علي شخوص ؛ وترسم ديكور المسرح ؛ وتحدد درجات الإضاءة ؛ والحركة .. الخ

وهي كلها من اختصاص عملية الإخراج ..لا يبق بعد ذلك سوي التنفيذ العملي ..

وإنني إنما أشير لذلك لأنبه لضرورة التفات المهتمين بالمسرح الغنائي لمنتج هذا الشاعر الغني بالمادة الدرامية الجاهزة للاكتشاف والتنفيذ ..

لعلي أكتفي بهذا القدر راجيا ً أن أكون قد وفقت إلي حد ٍ ما في بلورة بعض ما خلصت إليه من قراءتي لهذا الديوان للشاعر / حفيظ الدوسري الذي أرجو له مزيدا من العطاء .. والله ولي التوفيق .

د محمود عبد الصمد زكريا

© 2024 - موقع الشعر