اعذريني يا أم هند! - أحمد علي سليمان

يا (أم هندٍ) بَدتْ مَعالمُ الدرسِ
وسُطرَ النصُّ باليراع في الطِرسِ

واستسلمتْ للهُدى نفسٌ مُعذبة
مِن بعد أن عاينتْ مَرارة الوَجس

وتابَ قلبٌ عن الأوهام ضاقَ بها
ذرعاً ، فقد أثرَتْ سَلباً على النفس

والروحُ تاقتْ لرُشدٍ تستعينُ به
على الترَهُّل والإرجاف والتعس

والخاطرُ التاعَ مِن بُؤس يُخامرُهُ
إذ لم يُطِقْ شِدة الإيلام والبؤس

أتيتِنا (أمَّ هندٍ) في بُلهنيةٍ
والمطعمُ ازدانَ بالترويح والأنس

فبالزبائن أطتْ ساحُ مَطعمنا
وبعضُهم حوله تاقوا إلى الجَوس

وكان طاقمُهُ كالنحل في شُغل
كأنهم نشطوا في باحة العُرس

لم نشْكُ فقراً ، ولم تفتُرْ زبائنُنا
بل استمى حالنا في اليٌسر والرغس

وكل مَن عاينَ الأحوالَ يَغبطنا
مِن أشرف العُرب والرومان والفرس

و(أم هندٍ) نوَفيها مطالبَها
رفقاً بها وبناتٍ يُتم خمس

وعن جميع مُحِبينا نقدِّمُها
كي لا تمُدَّ يداً مِن بعدُ للإنس

نرجو رضا الله في سِر وفي عَلن
ونتقي أن يُصابَ المالُ بالوَكس

وذات يوم أتتْ والناسُ قد هجموا
كأن خندمة حَنتْ إلى الحُمس

أو أن مسغبة غاب الطعامُ بها
وعاشَ قومٌ بلا وعي ولا حِس

و(أم هندٍ) أتتْ تُدلي بطِلبتها
بين الجموع بما اعتادتْ مِن الهمس

فقلت: يومُك هذا لا امتنان به
ولا تسوُّلَ ، باءَ القصدُ بالرَّكس

عُودي ، فما عندنا من طعمةٍ بقيتْ
أقول صِدقاً وما في القول مِن حَدس

فعادتِ الأم ، والأحزانُ تصعقها
وكم تُجَندلُ نفساً وَطأة البَكس

في الأربعين ، وتنعاها شبيبتُها
والفقرُ سادَ فما في الجيب مِن فلس

والمطعمُ اهتاضَ إذ أحواله انقلبتْ
وذاقَ طعمَ الجَوى والضنكِ والنحس

أين الزبائنُ والترحيبُ يَغمرُهم؟
أين العوائلُ مِن شام ومِن قدس؟

أين القبائلُ ما جاءتْ لمَطعمنا
مِن خزرج شرَّفوا أو سادة الأوس؟

فعُدتُ للشيف مِن قلقي أسائله
لمَّا فرغتُ مِن التفكير والهس

ماذا جرى؟ كيف دَك الحَيْسُ مَطعمَنا؟
وهل خروجٌ من الإفلاس والحَيس؟

و(أم هندٍ) فما جاءتْ كعادتها
فأين وَلتْ؟ أجبْ واعمد إلى النبس

والطاقمُ اليوم أفرادٌ بلا عمل
ولا كلام ، لعاً للعالة الخُرس

ماذا هنالك يا شيفاً يُقاسمني
عبء الوظيفة في السراء والبأس؟

فاستشكل السؤلَ إذ عَتتْ إجابتُه
ووجهُه غاضَ في التكشير والعَبس

فقال والكربُ يَستغشي عِبارته
وحاجبُ العين فوق العين كالقوس

نهرتها النهرَ لم تشعرْ بقسوته
وقد مَزجت حروف القول بالهوس

ذبحتها ذبحَ قصاب لسَخلته
كما يُضحي مُضحي القوم بالتيس

نعم فعلتُ وكانتْ زلة عَظمتْ
ولفظها خُصَّ بالتجريح والخوس

فهل نسيت بَلاءً هَدَّ عِيشتها؟
أشغالك اليوم أنستْ نكبة الأمس

و(أم هندٍ) غدَتْ تبيعُ خضرتها
بيعُ الخضار لها في العيش كالترس

كالدِّرع يحمي من الأقوال يقذفها
حول البريئة عند القوم والعُنْس

حتى أتيت لها تكفي مَؤونتها
فقلت: قرِّي وما احتجتُم على رأسي

فطاوعتْك ، ولم تطعنْ تعففها
بل كنت نعمَ أخاً في الضيق والبؤس

هيا التمسْها ، وأصلحْ ما فعلت بها
حتى يزول بلاءُ الحال والنحس

فهمتُ أسألُ عنها الناسَ في وَلهٍ
حتى وصلتُ لسُكناها لدى (قيس)

حتى ظفِرتُ بها ، فقلتُ معتذراً
العُذرُ ملتمَسٌ يا رَبَّة الأنس

وساق وجبتها تُغري بذائقةٍ
صُنوفها اختلفتْ في الطعم والجنس

فالأرز واللحم والأسماك في عُلب
وفي الصحون شهيُّ الزبد والدِّبس

وساق خضرته في الصحن يانعة
فيها من الفجل والجرجير والخس

فاستقبلتْه بشكر دامع وجل
كان البديلَ عن الأحضان والبَوس

فتلك مسلمة شَعَّتْ عقيدتُها
نوراً يَفوقُ ضياءً سطعة الشمس

ومسلمٌ مثلها مَن جاء مُحتسباً
يَكفي المَعوذين نقصَ المال والعَلس

وعاد مَطعمُه باليُسر مُبتهجاً
وزالَ عنه ظلامُ النحس والوَكس

وعادتِ البسمة الوَسْنى لصاحبه
لمَّا استفادَ مِن التدريس والدرس

لله ربي شؤونٌ في خليقته
تبارك الربُّ ربُّ الجن والإنس

مناسبة القصيدة

(وقف عبد الكريم صاحب أحد المطاعم الفاخرة وسط صالة الطعام شبه الفارغة في توقيتٍ عُرف أنه وقت الذروة في الأسابيع والشهور التي تأتي بعد عطلة المدارس ، وكان هذا الحال قد بدأ تدريجياً منذ بضعة أيام والزبائن تنحسر عن المطعم بلا سبب واضح ، فهو لم يقصر في جَودة الطعام أو يزيد الأسعار! خرج عبد الكريم إلى الشارع الذي كان يزدحم بالمارة في هذا الحي الراقي التجاري ، يبحث عن سبب واضح لانحسار الزبائن عن مطعمه مع أنه المطعم الوحيد الذي يقدم أنواعاً مختلفة عن باقي المطاعم حوله ، وهو ما كان يميزه عن غيره. بالإضافة إلى شهرته في حفاوة استقبال العملاء ، وسرعة تلبية رغباتهم جعلته مقصداً أساسياً للزبائن من كل أطيافه! وعاد عبد الكريم إلى مكتبه الصغير خلف المطعم يفكر في القيام بأي إجراء يَجذب به الزبائن مرة! فقال في نفسه: هل أقدم خصومات أم وجبات بأسعار مخفضة؟! لا بل سوف أقدم وجباتٍ مجانية أخرى للمجموعات والعائلات! توقف عبد الكريم فجأة عن التفكير مع تذكر الوجبات المجانية لينادي على شيف المطعم الذي حضر سريعاً ليسأله: هل حضرتْ أم هند اليوم لتأخذ الطعام؟ فمط الشيف شفتيه بلا مبالاة وردَّ: لا لم تأتِ ، كما لم تأتِ في الأيام السابقة أيضاً! وهنا اندهش عبد الكريم من إجابة الشيف ليسأله مرة أخرى: منذ متى؟ منذ عدة أيام حين كان المطعم مزدحماً ، وأقبلتْ لتأخذ الطعام كعادتها ، ولكنك حينها صرخت في وجهها ، ونهرتها بأنه ليس هذا الوقت المناسب للشحاتة! فبهت وجه عبد الكريم وهو يتذكر تلك الواقعة التي قد نسيها تماماً! ولم يهتم منذ حينها أن يسأل عن تلك السيدة المُسِنة التي ترمّلت وهي في الأربعين من عمرها بأطفالها الثلاثة لتخرج وتعمل عدة أعمال شاقة متفرقة حتى أعياها المرض ، وأصبحت لا تستطيع العمل كالسابق ، واكتفتْ بجلستها لتبيع الخضروات في السوق ، لتتكسب دنانير قليلة لا تكاد تسد رمق أطفالها ، وفي أحد الأيام يمر بها عبد الكريم لتدعوه أن يشتري منها بعض الخضروات ، ليجلس أمامها بعد أن جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم برغم الآلام التي تشعر بها ، وتحكي له قصتها! ومنذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يومياً على مطعمه ليعطيها ما لذ وطاب لها ولبنياتها الخمس ، ليظل هكذا لشهور طويلةٍ دون أن تنقطع. وتذكر عبد الكريم أنه منذ ذلك الوقت وأعمال المطعم في رواج ورخاء ، كما تذكر دعواتها الصادقة وعيونها الشاكرة وهي تأخذ الطعام مغلفاً كما يعهد الزبائن بالضبط. فخرج عبد الكريم من مطعمه قاصداً المكان الذي كانت تجلس فيه في السوق ، ليجد المكان مشغولاً بسيدةٍ أخرى وليس لأم هند أي أثر في السوق ، ليقف شارداً يفكر كيف يجدها وهو لا يعلم أين تسكن ، لينتبه على صوت إحدى البائعات تطلب منه أن يشتري منها ، ليقترب في هدوءٍ وعلى وجهه ابتسامة بسيطة ويسألها: هل تعرفين أم هند التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق؟ فردت السيدة وهي ترفع يديها داعية: اللهم خفف عنها واشفها يا رب العالمين ، إنها حبيبتي وحبيبة الجميع هنا! فزع عبد الكريم من كلماتها ليسألها بذعر واضح: ماذا حدث لها؟ لترد السيدة بعد أن زفرت الهواء بقوة: لقد عادت إلى منزلها في أحد الليالي ، ويبدو أنها كانت خاوية اليدين لا تحمل عشاءً لأولادها كما اعتادت ، لتصاب بحزن شديد أفقدها وعيها ، وسقطت في الشارع لولا أن أنقذها بعض الناس الطيبين! فكاد قلب عبد الكريم أن ينخلع من مكانه ، فهو يعرف أنه السبب الرئيسي فيما حدث ، ليعود ويسأل السيدة والكلمات بالكاد تخرج من فمه: هل تعرفين أين تسكن؟ فردت السيدة بالإيجاب ووصفت له مكان المنزل ليعود سريعاً إلى المطعم ، ويأمر الشيف بتجهيز طلب محترم من أشهى مأكولات المطعم وفيه الخضار والفاكهة والعصائر ، ليحمله ويذهب إلى ذلك العنوان ، ولم تمر دقائق حتى كان عبد الكريم يقف أمام بيت أم هند القديم في ذلك الحي العشوائي ، ذلك البيت الذي وهبها إياه رجل طيب يسمى (قيس)! ويسمع دقات قلبه تكاد تحطم ضلوعه قبل أن يطرق الباب ويسمع صوت فتاة تسأل من قبل أن يُجيبها: أنا عبد الكريم صاحب المطعم. لم يكمل عبد الكريم كلماته لينفتح الباب ويلاقي تلك الفتاة التي في عمر ابنته الصغيرة وعلى وجهها ابتسامة صافية تشبه أمها ، وهي ترحب به وتدعوه للدخول. كان ظن عبد الكريم وهو يدلف من الباب أنه سيدخل أولاً إلى الصالة والتي منها إلى غرف النوم وهكذا ، ولم يعلم أن بيت أم هند هو غرفة واحدة بها كل شيء ، ليُفاجأ على يساره بفراش وعليه تجلس أم هند تتطلع في عينه بنظراتٍ ملأتْها لوماً وعتاباً وتوبيخاً ، وبُنياتها الخمس يجلسن بجوارها وعيونهن معلقات باللفافة الكبيرة التي يحملها ، وذلك بعد أن ملأت روائح الطعام الغرفة. ولم يعرف من أين يبدأ ولا كيف يعتذر ، وهل هناك كلمات تداوي جرح كلمات؟ وهنا اقترب منها بخطواتٍ ثقيلةٍ حتى شعرت بمعاناته ، وحنَّ قلبها الرحيم لحاله فابتسمت ، وأشارت له ليجلس على ط
© 2025 - موقع الشعر