وجود يحترق - أحمد علي سليمان

الشعرُ يبرأ مما قلتَ والأدبُ
ومِن سماعك قد أودت بنا الكُرَبُ

فلست تشعر قط ، أو تحسُ بنا
وسَوأة اللحن - في شِدقيك - تلتهب

تمرّغ الشعرُ في الأوحال يا لكعُ
وتمزجُ السم ، والأقوامُ كم شربوا

وتجرحُ الحَس والإحساس ، تقتلنا
وتخرب النثر بالأخطاء تضطرب

وتحبس اللفظ في أعفان حنجرة
فيها تقرحتِ الأرجاسُ والريب

وأنت وحدك مزهوٌ بخيبتها
فرْخٌ يُزخرف عظماتٍ بهِ الزغب

طاووسُ هزل يفوقُ الزهوَ منزلة
تهوى السراب ، ويُردي زيفك الكذب

وتصفعُ الشعرَ في أقذار أمسيةٍ
صفعَ اللئيم الذي أودتْ به النوب

أين (السموألُ) يمحو ما افتريت هنا
ويُنقذ الشعرَ ، إن الشعر يُغتصب؟

أين (الحُطيْئة) كي يجتث باطلكم
ويُرجع الحق ، إن الحق ينتهب؟

وأين (حسانُ) بالأشعار مُدّرعاً
وإنه باللسان الفارس الضرب؟

حسانُ غاب ومَن بثوبه التحفوا
وشعرُه اليومَ بين الناس ينتحب

وأين (كعبٌ) له بالشعر ملحمة؟
وشعره زانه التوحيدُ والطرب؟

وأين (خنساؤنا) بالشعر صادحة
تعطر القلب مما غنت العرب؟

وأين في الساحة الصماء (عنترة)؟
يُرَجّع الشعر فواحاً له رغب؟

وأين غاب (جريرٌ) عن مَحافلكم
حتى غشاها الغثا ومَن له ذنب؟

أين (الفرزدقُ) في آفاق صولته؟
أين التهاجي الذي يحبو له الأدب؟

وأين منكم (زهيرٌ)؟ أين حكمته؟
و(الأصمعيّ)؟ وأين النقد والكتب؟

ودوحة الشعر في أسواقها طعنتْ
بالأمس كم سطعتْ ، كأنها الذهب

و(ابن الرواحة) أين الآن همته؟
مَن كان في ساحة التنظير يحتسب

و(الشنفرى) أين شعرٌ منه مؤتلقٌ؟
فاضت طلاوته ، كأنه الرطب

أين الأعاربُ ، والأشعارُ تسبقهم
تُظِلها الشرعة العصماءُ والنسب؟

ديوانهم شعرُهم ، والهَديُ باركَهم
هو الحياة لهم ، وشعرُهم عَصَب

في كل شأن لهم شعرٌ وأغنية
يُزكِي النفوسَ له فوق العِدا لهب

حتى أتيت أيا رِعْديدُ تنقدُهم
أنت المَعِيب ، وهم بين الورى شُهُب

تقولُ عن شعرهم ما لا يليق به
تقولُ: شعرٌ قديمٌ ليس يُطلب

تقول: قد أسنتْ فحوى مَعالمِه
ولا حياة له ، أودتْ به الحِقب

ولا يخاطب عصراً فيه طائرة
هو الرتيبُ ، مضى بعصره العَطب

هو الغريبُ ، فلا الأصقاعُ تعرفه
ولا يزال أراه اليوم يغترب

وليس يكتب شعر العُرب مُهترئٌ
لكنما بيراع الفذ ينكتب

ماذا تقول أيا مستشعراً سَمِجاً؟
أتنقدُ الشعرَ يا من قلبُه خرب؟

وتدّعي أن ما ألفته دُررٌ
كأنك الفارسُ المستنصرُ الضرب

الشعرُ شعرٌ ، وإنْ أعلاك مَن سَفلوا
أنت الحضيضُ ، ومأوى شعرنا السحُب

وما ادعيت فهذا حُصرُمٌ عفنٌ
وما كتبتُ وغيري مثله العنب

نحن الرشادُ ، وشعرُ العُرْب رائدُنا
كذا العقيدة ، والحسنى لنا سبب

خنساؤنا أمّنا ، والصحبُ قدوتنا
وإن (حسانَ) في دنيا القريض أب

مهما افتريت ، وصغت الزيف تصدية
فالحق نحن ، وأنت الزور واللعب

مهما أخذت مِن الألقاب قد سُبكتْ
فإنما الشعرُ والتقوى لنا لقب

وإن رآك على خير من انحرفوا
فهم جرادٌ على الأقذار ينقلب

فإنما يَعرفُ التقييمَ مَن حَذقوا
صُنعَ القريض ومَن في فلكِه ركبوا

أما الذين إذا قلت اقرأوا عثروا
فكيف يُؤخذ من أمثالهم أدب؟

أراك تعبث في التوحيد في عمهٍ
وما عليك هنا في زعمهم عتب

مِن الجحيم سخِرت اليومَ مُجترئاً
وكل مَن كفروا فهم لها حَطب

أجارنا الله مما قلت تطربنا
فما طربنا ، وأردى شوقنا النصب

وقاتلَ اللهُ جمهوراً يُشجعُكم
أنت الحداثة والتضليلُ والشغب

مازلتُ أفضحُ بُهتاناً يُزخرفكُم
وناصرُ الحق مَكتوبٌ لهُ الغلب

أقرّنُ الزيف في الأصفاد محتسباً
ولن يُخيّب عند الله مُحتسب

وأفضحُ اليومَ جمهوراً يُباركُكم
يتابعُ الهزلَ في تشجيعه صَخب

قد أغرق الساح تهريجاً وتصدية
ويَعجب الآن مِن ألفاظه العَجب

مِن كل ساقطةٍ زانتْ ذوائبَها
مشتاقة زادُها الآهاتُ والشبَب

وطعمَة الروح ألفاظ مُنمقة
وطعمة الجسم شايٌ بعضه الحَلب

تلاحقُ الشاعرَ المزعومَ في شبق
والعينُ سهمٌ ، لها في عشقِه طلب

في الأربعين يعيش العامَ شاعرُها
يحيا وحيداً ، فهذا المفتري عَزب

تحِب فيه ابتساماً قد أعِد لها
فهذه مِن زها العشرين تقترب

هي التي تنشد العُشاق تجذبُهم
وشصها مالها والعِز والحَسب

عارٌ عليها الحيا ، والفسقُ دَيدنها
جاءت إليّ مجيئاً صوته لجب

قالت: أريد حديثاً شائقاً عبقاً
فقلتُ: لا ، وطغى في خاطري الغضب

وزدتُ: كيف كلامٌ منكِ أقبله؟
ففارقتْ حِلقُ الغادات تكتئب

وقد رمتنيَ بين الناس ساقطة
بأنني مرعبٌ ، في بسمتي رهب

قالتْ: قديمٌ إذن تفكيرُه حجرٌ
أو أنه لهُدى الإسلام ينتسب

فلن ننال مِن المَعتوه بغيتنا
كأنما بيننا وبينه الحُجُب

حصرتُ ثوبي ، وقد كشفتُ لعبتهم
إني البصيرٌ ، وكم قد كان لي لعب

حتى هُديتُ إلى الإسلام خيرَ هُدىً
وكم قرأتُ له ، وكان لي خطب

وقد بَرئتُ مِن الضلال قاطبة
فليس لي عندهم زلفى ولا قرب

حياتهم مُرة ، والهزلُ رائدُهم
وعيشُهم بائدٌ ، يودي به الرتب

وإن يموتوا على ما هم عليه ففي الن
يران منزلهم ، وهم لها الحصب

وقد فررتُ مِن الفساق أجمعِهم
وفي المليكِ وربي كان ذا الهرب

وقطعَتْ بيننا فحوى صداقتِنا
ولم يعُد بيننا ودٌ ولا نسب

لكنما قد دعاني اليوم مُرتزقٌ
للأمسيات وهزلٌ لفظه خشَب

وقد تبين ما في القاع مِن أكم
نعائمٌ يشتكي أثقالها الكنب

ملء القلوب هواءٌ لا حياة به
وليس ماءٌ إذن تحويه ذي القِرب

شتان بين شعور صاغه ألمٌ
وبين هزل لقد طاشتْ هنا النِسَب

هذي البضاعة تغري مَن طغى وبغى
ومَن تغوصُ به في غيّه الرُكَب

هم أذهبوا ريحنا في كل أمسيةٍ
وغيرُنا جدّ ، والأنذال كم لعبوا

وكم على دمعنا الهتان قد هزلوا
وكم على دمنا المسفوكِ قد طربوا

همُ الكِرام إذا حلوا على بلدٍ
وصاحبُ العلم يقلو علمَه الدبب

ويشربون على الآلام خمرتهم
وقد حوتها لهم في دارنا العُلب

في جو هذه السما والبحر قد حُملوا
والمُخلصون على أكبادهم ضربوا

هذي الحداثة في مستنقع نبتتْ
وصار منا لها أهلٌ ومُنسرب

كم قلدوا في سراب التيه أوسمة
وفي الكريهة أهلوها همُ العُكُب

ساقوا الديار إلى درْكِ الشقاء ، لهم
في كل وادٍ أساطينٌ ومُغترب

نشأ تفرّخ في أحضان عَلمنةٍ
ثم استقرّ لها في دارنا شُعب

لاقت رَواجاً بدُور العُرْب أجمعِهم
والمجرمون على أوتارها ضربوا

حتى استقر لهم في الأرض ما نشدوا
وحققوا بيننا - بالرغم - ما رغبوا

ما إن تلوحُ لهم في الدار بارقة
إلا وهم لرؤى الأنظار قد جذبوا

ويُظهرون لكل الخلق باطلهم
وليس ما حصروا في الظل يُحتجب

بضاعة الحق عند الناس كاسدة
وحاملُ النور عند الصدع يُجتنب

فيم التوجّس ، إن الزيف مُنتحرٌ
واللهُ ماحِقُ ما شادوا وما كتبوا؟

يا حامل النور للضلال ، يا بطلاً
زورُ الحداثة عند الحق ينسكِب

لا تخش ثورتهم ، لأنهم غجرٌ
كحاطِب الليل ، في البيداء يحتطب

وإن تظاهر بالأخلاق مُفلسُهم
وإن تراه بماء الطهْر يَختضب

هو الرقيعُ فلا دينٌ ، ولا خلقٌ
ولا احترامٌ ، ولا شعرٌ ولا أدب

وكيف يكتبُ شِعر العُرْب مُرتكسٌ
في حمأة التيه والكفران مُغترب؟

وهل يُحِس بما في العُرب مِن ألم
مَن همه في الورى دنيا ومُنقلب؟

والعُرْب في لغتي مَن أخلصوا حنفاً
ومَن بأرض المليكِ الكُمّل النجُب

عُربٌ بوحي إله الكون ملتحدٌ
همُ الهُداة ، على توحيدِه رُقب

والسِلمُ شِرعتهم ، والصحبُ أسْوتهم
والشعرُ ناقتهم إن خانتِ الرُكُب

القائمون بأمر الله إن مَلكوا
والصابرون إذا أضناهمُ الودَب

والتائبون على أوزارهم دمِعوا
والحامدون إذا أرداهمُ السغب

والناصحون لمَن غابوا ومَن شهدوا
والشاكرون إذا زلوا ، وإن غلبوا

والمخلصون لرب الناس قد علموا
ويشهد الصدقَ جيرانٌ لهم جُنب

والمحسنون إذا قالوا ، وإن فعلوا
والطيّبون فلا سُوآى ولا جلب

وشعرُهم مِن سَنا التوحيد مُنبثقٌ
العُودُ هم ، وسِواهم في الورى الشذب

ولستُ أعني هنا مَسخاً أتيهُ بهِ
وليس في لكنتي عُجبٌ ولا صخب

كم ذا تغنيتُ بالأشعار صادحة
أرجّع الشوقَ ، والأنغامُ لي كُتب

وأخرسُ البُلهَ والدهماءَ مَن سَفلوا
ومَن لشعر الهُدى على الهَوى صُلبوا

وأظهرُ الحق - بين الناس - مُعتبراً
وعَبرتي في الأنام المرأة السُلب

ما عاقني هلعٌ ، كلا ، ولا وجلٌ
وليس في لهجتي لحن ولا عُكُب

ما عاقني الوزنُ أو تنقيحُ قافيةٍ
إن القريضَ لمَن يَهواهُ مُصطحِب

وخاطِبُ الشعر فليبذلْ مَؤونتهُ
مِن الصداق ، وما أسْداه يُحتسب

أما التشدقُ بالألفاظ خالية
مِن العَروض فلا شعرٌ ولا خطب

وليس شعراً تخاريفٌ مُقطعة
فيها عزيفُ الجوى والزيفُ والكذب

برامجٌ في دجى الأصنام مُعلنة
قِوامُها هازلٌ ، وما بها أرب

أصحابُها خبثوا في الناس ، وانحدروا
ولا اعتبارَ بهم ، فما بهم لبَب

وقد أعِدتْ لهم في التيه مَزبلة
سُرادقٌ عاربٌ ، من فوقه طنب

صرحٌ يشيّد للتغرير ليس سوى
وسوف تشهدُ يوماً دكّها القبَب

لا تفرحوا يا هُواة الدعر ، إنّ لكم
يوماً ، وبينكمُ الأسيافُ تنتصَب

إن الحداثة مهما راجَ باطلها
يوماً يُدهدِهها إفلاسُها الجدِب

دمارها في سلا الأحشاء مُنغرسٌ
وسوف يأكلها - بين الورى - الجرب

كذاك أربابُها في مَهدهم وئِدوا
وعندما أخليَ الميدانُ قد وثبوا

يوماً يعودُ لجوّ الشعر طائرُهُ
وتذبحون أيا ضُلال يا غرب

وتوأدون ، ولا جُرْمٌ ولا دِيَة
ولن يكون لكم في داركم سَلب

فكم أسأتم وكم شدتم هزائمِنا
ومِن ورائكُمُ الأعداءُ كم كسبوا

أملاكُمُ اللهُ ، قد نلتم مآربكم
يا ربّ أرجِعْ لنا الحق الذي سلبوا

© 2024 - موقع الشعر