شِعرٌ يؤبّنُ صاحبه! (تخيلت شعري يؤبنني) - أحمد علي سليمان

صمتَ القريضُ ، وأطرقتْ أوزاني
وزوى البيانُ وأمسكتْ ألحاني

وبكتْ عليّ قصائدي وفرائدي
وبكى الخيالُ بدمعه الهتان

ونحيبُ أسئلتي يُرجّعُ ثاوياً
حالاً توشّح بالمصير الآني

هذي دواويني تشاطرُني الأسى
لتحدّ من مرثية الأحزان

ويقول شَعري: أنت تاركني لمن
لأبيت من ألم الرحيل أعاني

أنت الذي أكرمتني ونفحتني
وأجدتَ في نظمي بكل تفاني

وبذلتَ جهداً في الكتابة لم أزل
أطريه في سر وفي إعلاني

وأضفت لي بعض الجديد لأستمي
فرفلتُ في منظومة الأوزان

ألبستني حُلل الترفع والعُلا
حتى ازدهى بين اللغات بياني

غنيتني لحناً يُغرّدُ جَرْسه
في الخافقين شدا كما الكروان

أبدعت في رسمي بأظرفِ ريشةٍ
وغمستها في أبهج الألوان

وحبكت ترتيب الكلام تكلفاً
بترنماتٍ طهمتْ بحنان

وطرقت أبواب القوافي حادياً
وذكرت ، لم تركن إلى النسيان

واليومَ تتركني ، وترحل صامتاً
فمن الذي تعنيه رفعة شاني؟

ومن الذي يعنيه أمري في الورى
ويصدّ ما ألقى من العدوان؟

ويرد هجمة حاقدٍ مستشرق
يبغي ويرفعُ راية الطغيان؟

ويُجيرُني ممن تطاول واعتدى
وأذاقني بالرغم كأسَ هوان؟

ويردّ لي بعض الكرامة والإبا
ويُعيد مجداً ضاع ثم قلاني؟

ومن الذي يبكي لما قد نالني
من غربةٍ ذهبتْ بعذب صِياني؟

ومن الذي يجتث صائلة العِدا
ويُعاجلُ الهمجَ الغثا بطِعان؟

أوَما ترى (الديوان) يخنقه الجوى
لفِراق صاحبه اللطيف الحاني؟

لمن القصائد قد تركت كسيرة
ودموعُهن سواجمُ وحوان؟

يندبن حظاً سُوّدتْ صفحاتُه
وفصوله تنعيه كل أوان

متجللاتٍ بالسواد قوانتاً
أنْ ليس يقرأهن من إنسان

وكأنه الموتُ الممنهج غيلة
وافى بلا نذر ولا استئذان

مات الذي وهب القريضَ حياته
وأعاره حُللاً من التبيان

واليوم عشعشَ في صحائفها الثرى
وقد اغتدتْ تشكو من الهجران

غدتِ القصائد كاليتيمات اختفتْ
بسماتهن ، وما لهنّ يدان

كن الغواليَ في الصياغة والصوى
يحملن خيرَ مَطامح وأمان

يسلبن بعض صواب كل متيّم
والشعرُ يُطربُ كل ذي هيمان

يسكنّ آفاق القرائح والنهى
فيزدْنها بطلاوة الرجحان

كن الخرائد يحتفين بعاشق
أمسى يقلب صفحة الديوان

واليوم ناح الشعرُ ينعي من قضى
ويقول في ثقةٍ وفي اطمئنان

تعساً لحال لا أطيقُ بقاءها
ذهبتْ بنور سكينتي وكِياني

فجُعلتُ إرثاً لا يطيبُ لوارثٍ
وقصائدي أغلى من العِقيان

في أربعين من السنين صياغتي
وقصائدي - في مَرّهن - غواني

لم يألُ جهداً صاحبي في نظمها
في النص والأفكار والعنوان

عانى وكابد ، ثم سلّ يراعه
وأتى بشعر عاطر مُزدان

كم خصّه بسنيّ عمر أثمرتْ
شِعراً يفوقُ أزاهر البستان

كم جدّ في نظم القصائد ذائداً
عن قيمةٍ ومبادئ ومعاني

كم سخر الأشعارَ تخدمُ دينه
ليسود هذا الدينُ في البلدان

ولكَم بهذا الشعر أبّن مَن مضى
مِن أنبل العلماء والخلان

ولكَم بهذا الشعر ناوأ ظالماً
يعتدّ بالقوات والسلطان

ولكَم بهذا الشعر أصلحَ واقعاً
أضحى يُحاربُ شِرعة الرحمن

ولكَم بهذا الشعر لامَ مقصّراً
واللومُ يصقلُ دُربة الإخوان

ولكَم بهذا الشعر ناصحَ غافلاً
والنصحُ ينفعُ صاحبَ النسيان

ولكَم بهذا الشعر أيقظ نائماً
ما كان في دنياه باليقظان

ولكَم بهذا الشعر أطرى مُحْسناً
والمدحُ يُشعلُ جَذوة الإحسان

ولكَم بهذا الشعر فصّل مُبهماً
ودليله يحتاجُ للبرهان

ولكَم بهذا الشعر حلّ عويصة
ثقلتْ عن القدرات والأذهان

ولكَم بهذا الشعر جاهد مَن طغى
ومَن استبدّ ، وشط في العصيان

ولكَم بهذا الشعر عرّض بالألى
ركنوا لكيد وساوس الشيطان

ولكَم بهذا الشعر عارضَ فرقة
مِن خِيرة الشعراء في الأوطان

ولكَم بهذا الشعر خصّ فضيلة
بالمدح والترويج في إتقان

ولكَم بهذا الشعر أرشدَ قومَه
للخير والمعروف دون توان

واليوم يسكنُ قبره مُستسلماً
لقضا المليك الواحد الديّان

والموت حقٌ ليس يُنكره الورى
ماذا تفيدُ بشاعة النكران؟

ويقولها شعرُ الفقيد صراحة
إني أؤبّنُ شاعري المتفاني

أبكيه فذاً لم ينلْ من فرصةٍ
مُنِحتْ لشرذمة من الغربان

نعقوا ، وعمّ نعيقهم أصقاعنا
وأتوْا بما هو ليس في الحُسبان

أبكيه مظلوماً ، وأنصر حقه
لأراه بين الناس غيرَ مُدان

وأفند الشبهاتِ عنه تأصّلتْ
وترسّختْ بالزور والبُهتان

أبكيه شهماً للمناقب كم دعا
حسْب الذي قد كان في الإمكان

وجنت عليه صراحة وطبيعة
إذ لم يكن بمخادع دهقان

خبر الحياة بكهفها ورقيمها
واختار آخرة لنيل جنان

أبكيه جاد بما تملك حِسبة
يرجو ثوابَ المنعم المنان

والناسُ أتباعُ الكريم وحِزبه
وأحبة المتفضل المعوان

أبكيه مِضيافاً ، يبشّ لضيفه
والحرُ يُكرمُ جيئة الضيفان

إذ عاش يتخذ العطاءَ وسيلة
لنوال عفو الله والرضوان

أبكيه عفاً عن مغازلة النسا
ما عاش يَشغف لحظة بحِسان

لم يتخذ ولعَ العذارى حِيلة
لِلعْب مُحتالاً على النسوان

وإذا أتته ولية في حاجةٍ
لبس الحياء ، وغضّ طرفَ عِيان

وأعارها أخلاقه ونواله
لمّا يقلْ عشقُ الكعاب غزاني

وقضى لها ما تبتغي مستعلياً
عما يميلُ إليه قلبُ حَصان

واحتاط للنفس اللجوج من الهوى
يأتي الهوى بالسوء والخسران

لمّا يعشْ يوماً أسيرَ ذوائب
لم تخفها بُحبوحة الفستان

لم يُغره مِن غادةٍ تهريجُها
بل خصّها في التو باستهجان

أبكيه لم يُحْن الجبينَ لظالم
متجبّر مستكبر خوّان

عاش الأبيَ ، وإن تدنى غيره
والحُر يأنفُ عِيشة العُبدان

يا صاحبي مِت العزيز ، ولم تزلْ
وبرغم أنف الظلم والكفران

فعليك من رب السما رحماته
وأنا ليَ المولى العظيم الشان

واللهُ ناشرُني ومُبْلغ حُجّتي
وقضيّتي في عالم الإنسان

© 2024 - موقع الشعر