إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون - أحمد علي سليمان

الله أكبرُ ، إن البحر يحترقُ
والأرضُ من حُمَم البركان تختنقُ

والجو - مِن لهب النيران - مُشتعلٌ
والليل أودى به في المحنة الغسق

والخمرُ سَجّرَها وهْجُ السعير ، فلم
تلعبْ برأس ، ولم تسعدْ بها الحُلق

وظلمة الليل قد غامت سَكينتها
فلم يُلامسْ سَنا ترجيعها الأفق

وطلة البدر لم تبرحْ منازلها
إذ المنازلُ فيها البدرُ يحترق

وفي السماء نجومُ الليل قد غرقتْ
وشجّ موكبَها في الظلمة الغرق

والرملُ تلفحُه النيرانُ في نهم
وقوسُها من صهير الرمل تنشرق

ثم البناياتُ في أنقاضها جُمعتْ
يبكي على هدمها التدميرُ والشفق

تناثرتْ في أديم الأرض ما عُلمت
منها فنادقها ، كلا ، ولا الشقق

ثم المسارح في أشلائها رقصتْ
والرقصُ أسكته (الزلزالُ) والصعَق

ثم الشواطئ للبُركان ما صمدتْ
فالنارُ كالسيل – فوق الرمل - تندفق

سَلِ الفنادقَ – مثل الغيث - هاطلة
على روابي الفنا ، كأنها الصَلق

أين الزبائنُ والسُيّاح أجمعُهم؟
وأين سُكْرٌ بها يقودُه الشبق؟

أين الدواعرُ والماخورُ قد سقطتْ
منه الحوائط ، والراياتُ تختفق؟

أين الملاهي التي كانت مزخرفة
وفوق هامتها الفيروز يأتلق؟

أين النوادي بها الألعابُ يانعة؟
أين الرياضة ، أين الجُعلُ والفِرَق؟

أين السباحة في أحواضها ذهبتْ؟
وأين مَن في سباق العَدْو قد سبقوا؟

كيف السياحة قد دُكتْ دعائمُها
وحول جيد الخنا قد لفتِ الشنق؟

وكيف ناحت – على التمثيل – جوقته؟
أين الفنونُ التي بالرغم تختنق؟

وأين سوق الزنا في الدار مُعلنة
حربَ المليك وفيها القومُ قد غرقوا؟

وأين صرحُ الربا في كل حاضرة؟
وأين أرصدة قد حاطها الأزق؟

أين الغناءُ بدا في ثغر غانية؟
وأين مَن في مَدى تقديرها انفهقوا؟

أين المجلاتُ بالعُري المشين بدتْ؟
وأين أهلُ الهوى والكأسُ والرفَق؟

إني أسائل داراً أصبحتْ خبراً
وأسأل اليوم في الدار الذين بَقوا

أستنطق – اليومَ - أطلالاً تئنُ دماً
ودمعُها في سَرَى الأشلاء منسحق

فهل جوابٌ تريحُ النفسَ لفظته
ويجعل المرءَ فيمن صاغه يثق؟

وهل هنالك تفسيرٌ يُطمئننا
عن الذين من الإسلام قد مرقوا؟

وهل هنالك تأويلٌ لزلزلةٍ
دكّتْ حصون الألى عن هديهم فسقوا؟

وكم تساءلتُ حتى مجّ أسئلتي
فكري الحليمُ الذي أهوى وأعتنق

ولم أجدْ في دجى التعتيم أجوبة
إذ العُتاة على كرسيّهم قلقوا

فقلتُ: يوماً ستجلو كل خافيةٍ
ويُظهر اللهُ مَن مِن دينهم أبقوا

إن الحقيقة لا تخفى معالمُها
مهما تعقبها بطشُ الذين شقوا

تغِيبُ دهراً ، ويُحيي الله عَودتها
لكي يبصّر مَن بالكفر قد نعِقوا

وكي تكون نذيراً في دهاقنةٍ
على الضلالة والسوآى قد انغلقوا

سقى القضاءُ عدو الله كأس ردىً
وللقضاء لسانٌ شاحذٌ لبق

وأدّب الكل مَن ضلوا ومَن سَكتوا
وحاطهم بنطاق الموت ، فاختنقوا

وضاعفَ الهولَ حتى أصبحوا خشُباً
وعن سراب بدا في البيد ما افترقوا

وكال بالرعب ، لم يرحم أكاسرة
كم استبدوا وكم جاروا وكم سحقوا

وسلط الموتُ سيفاً ليس يغلبه
قومٌ على عِزة القرآن قد بصقوا

هم قطعوا صفحاتِ الذكر ما ارتدعوا
وبعدُ زادوا ، فآياتِ الهُدى مَزقوا

ولم يخافوا على التحقيق ما ارتكبوا
لأنهم بعُرى قرآنهم شرقوا

حتى إذا كفروا داسوا شرافتها
لأنهم في هوى أربابهم صدقوا

وصاحَ أكبرُهم: أين المليك لكي
يحميْ كتاباً غدا كأنه الصرُق؟

فزلزل الله مبنىً كان يجمعُهم
وفجّر الأرضَ ممن بالهُدى شرقوا

والذعرُ أزبدَ في قفر وفي حضر
وسيفه من ظلال الغِمد ينخزق

والموتُ خط حتوف العِير يحصدُهم
وحاصر الكل لم يصمد له الأبق

وغاصتِ الأرضُ بالدهقان حين طغى
وحوله جوقة الفسّاق والشرُق

طوى الحِمامُ فسوقاً كان يربطهم
غاروا جميعاً ، وغار اللهو والزوَق

قضاءُ خالقنا جلى نهايتهم
لكي تراهم قلوبُ الناس والحَدَق

واليوم يكشفهم شعرٌ به صورٌ
لم يحو حُرقتها حِبرٌ ولا ورق

أملاهمُ الله دهراً ، ثم باغتهم
وهم - لما في يد الكفار - كم وثقوا

تعلمنوا ، وأديمُ الأرض يلعنهم
مثل الحمير – على أشلائهم - نهقوا

كم استكانوا لصهيون وزمرته
وكم أبادوا من الشمّ الذين لقوا

كم عرّضوا لزوال البأس أمّتهم
وكم من الناس فحوى عزهم سرقوا

وكم أضاعوا لواءَ النصر في صلفٍ
ولا تراهم سوى الخسران قد عشقوا

كم حاربوا شِرعة التوحيد دون حيا
كأنهم - من لظى الأعداء - جد سُقوا

فلم يُطيقوا له بأساً يتيهُ به
كأنهم من سنا توحيدنا صًعقوا

شادوا المشانق – في الأرحاب - مُشرَعة
كم – دون ذنب – على أعوادها شنقوا

وشيّدوا - في الدنا - للدعر أبنية
كأنما هم - على تدميرنا - اتفقوا

وضللوا الجيل بالتغريب ، فانحدروا
صوب الحضيض هناك الذل والرنق

وحكّموا في الورى قانون مَن كفروا
فالدينَ والعُرفَ والأخلاقَ قد خرقوا

ومَن يُعارضْ فإن السجن موعدهُ
والسيف في وجهه بالقهر يُمتشق

يذوقُ ما كتبتْ يدُ المليك له
مِن البلاء الذي حقاً له ألق

ضِدان: مَن أسلموا لله خالقهم
وآخرون لعابَ الكفر كم لعقوا

فالمسلمون مِن النيران قد أمِنوا
والكافرون بنار الخيبة احترقوا

والمسلمون استطابوا نورَ شِرعتهم
فاستعذبوا الموت قرباناً لمَا اعتنقوا

واستعذبوا - في الهُدى - آلامَ دعوته
وما استكانوا لمن في الفتنة انطلقوا

وأنفقوا المالَ والأرواحَ هينة
وفي الجهاد - ببذل الأنفس - انطلقوا

وواجهوا الباطل المملوء علمنة
ولم يخافوا أذى من بالهوى نطقوا

واستصغروا كل ما أدوا وما بذلوا
لأنهم - بركاب المصطفى - التحقوا

والمجرمون - على إجرامهم - دَرجوا
فكم أبادوا؟ وكم كادوا؟ وكم حرقوا؟

كم حاربوا الخير في الدنيا محاربة
يندى الجبينُ لها ، والدمعُ ينسحق

كم من دماءِ دعاة الحق قد شربوا
وكلهم - في التهام اللحم - مستبق

واستعذبوا محق أهل الخير قاطبة
فعاقب الله مَن أغرى ومَن مَحقوا

وكم دموع لما قد أحدثوا ذرفتْ
وكم أحاطت بمن قد حُوربوا الحُرَق

واستعذبوا الموت في جور وفي عمَهٍ
حتى أتاهم وهم في غيّهم نفقوا

والفرقُ أعمقُ مِن وصفٍ يُحيط به
بين التقاة ومَن في الباطل انزلقوا

عذوبتان فذي رُشدٌ ، وذي خبلٌ
فأهلُ ذي سَعدوا وأهل تلك شقوا

وموتتان فذي خيرٌ ، وذي سُعُرٌ
فأهل تلك نجَوْا وأهل ذي احترقوا

شتان شتان إي والله بينهما
هل يستوي أسودُ الألوان واليلق؟

وسعْيُ مَن فجَروا النيرانُ تلفحُه
وسعْيُ مَن أسلموا عن ذاك يفترق

فالمؤمنون بجنات المليك لهم
فيها النعيمُ وأنسُ الحُور والسَمَق

لا يحزنون ، ولا يلتاع خاطرُهم
وليس يُزعجهم كربٌ ولا رَهَق

على الأرائك في سعدٍ وفي مرح
وبالعرائس في زيناتها رزقوا

وبالأطايب خصّوا دون غيرهمُ
كأنهم - لجنان الخلد - قد خلقوا

أطايب الأكل فاضت في مجالسهم
وثمّ مِن أنهُر الجنات بعدُ سُقوا

أما الحُليُّ فما عينٌ لها نظرتْ
قِوامُها ذهبٌ قد شابه الورق

نعم الأساورُ لا غِشٌ ولا صدأ
وإن منظرها - باللون - متسق

بياضُ لمعتها أم حُسنُ لابسِها
صدقاً تحارُ لهذا الألسن الطلق

أما الفِراشُ فمن إستبرق عطِر
يغارُ منه السنا والحُسنُ والمَهَق

واللؤلؤ الغض في الأيدي نضارته
نِعمَ الزخارفُ والزيناتُ والأنق

ثم الحرير لباسٌ زان خِلقتهم
وهم جديرون بالحُسنى فهم صُدُق

والخيرُ - في جنة الرضوان - مرتصدٌ
أهلَ الجنان رطيباً عطره عَبق

أنواعُ أنهُرها يا صاح أربعة
والوصفُ في سُورة (القتال) يأتلق

الخمر ليس بها غولٌ ولا خدرٌ
والماءُ فاض بها ، فسَيْله غدق

وأنهرُ العسل الصافي تَخللها
حلو المذاق ، فلا قبضٌ ولا شرَق

وأنهرُ اللبن الفواح جارية
تهدي الحياة لمن في قلبه رمَق

صُنع المليك ، تعالى الله خالقنا
فنعم دارٌ لنا ، ونعم مرتفق

فيها الذي ما رأتْ عينٌ ، ولا سمعتْ
أذنٌ ، ولم يكُ في قلب له أفُق

ورؤية الله في الجنات كائنة
تلك الزيادة فيها الغُر تستبق

وليس يزهدُ فيها غيرُ مرتكس
في حَمْأة الفِسق نحو التيه ينطلق

والكافرون لهم نارٌ ستحرقهم
بنارها للقا سُكّانها عُمُق

جزاءَ ما أنزلوا – بالخلق - مِن مِحن
فجمعُهم مِن سعير النار ينصعق

تمردوا ، والمليك الحق ينظرهم
إذ قبل حلق لحاهم دينَهم حلقوا

لم يرعَوُوا لدعاة الخير حين دعَوْا
لكنْ هديرَ الهُدى من حِقدهم خنقوا

وهادنوا الكفر والكفار ما عقلوا
وبالطواغِيت في عُدوانهم لحقوا

تسابقوا في دمار الناس ما حسبوا
مَغبة الأمر ، بئسَ القومُ والسَبق

كأنهم ورثوا كيدَ العُتاة ضحىً
وفي المساء على أبوابهم طرقوا

تواضعوا لكلاب الأرض كي يثِبوا
على الكِرام فما سادوا ولا سمقوا

ومكّنوا الكفرَ مِن شَعب ومملكةٍ
وبالأماجد – مِن أبنائنا - ارتزقوا

ماذا أقول لمن باعوا شريعتهم
لمن طغى وعلى أنصارها حنقوا؟

وأفجَرُ القوم محبورٌ بفعلته
ماذا تؤمّلُ منها ، أيها الفسَق؟

تمزقُ المصحفَ المحفوظ ، تحقِرُه؟
تحاربُ الله ، في الكُفران تنزلق؟

وغيرك البُلهُ أهلُ الكفر قد طعنوا
آي الكِتاب وفيها السهمَ كم رشقوا

كم مزقوهُ بألباب وأفئدةٍ
بكل خبثٍ فما احتاطوا وما رفقوا

كم أبعدوه عن التحكيم في أمم
غدتْ كرامتها في الوحل تندلق

سِيّانِ تمزيقُ أوراق الكتاب هنا
والدافعُ اليومَ في ذي المحنة الحَنَق

وثم تمزيقه بأن يُراد له
ألا يُرى العيشُ من نوريْه ينبثق

نور التلاوة في دمع وفي لجأ
ونور تطبيقه ليذهب الفرَق

نبيتُ نأمنُ أن قمنا بواجبنا
فذي الحياة مع القرآن تتفق

فلا نراه تراتيلاً منغمة
في عالم لجب أودى به الزلق

ولا نراه قراطيساً مزركشة
فوق الرفوف لمَن في طبعه حذقوا

فيه الزخارفُ ، هذا أحمرٌ نضِرٌ
وذاك أبيضُ من فرط السنا يَقق

فيه الإطاراتُ ، هذا أخضرٌ عطِرٌ
وذاك أزرق يطفو فوقه الزرق

وفصّلوه بأحجام منوعة
ورُشّ من فوقه الريحانُ والحبق

لكنهم لفظوا تطبيقه زمَراً
وبعدُ عابوا كتابَ الله ، واختلقوا

وكونهم كفروا حُكْمٌ يُناسبهم
فالكفر أمرٌ – على الكفار - ينطبق

ما عُذرهم في الذي قالوه أو فعلوا؟
همُ الذين لنا كأس الشقا دهقوا

همُ الذين لمَا قد نالنا فرحوا
همُ الذين لنا أرضَ العنا عزقوا

ألم يكونوا يرون النذر قائمة؟
أم أنهم نظروا ، لكنهم حُمُق؟

(قارون) قد خسفتْ أرضُ المليك به
كذاك (فرعونُ) قد أودى به الغرق

وقوم عادٍ بظلم منهمُ هلكوا
أمّا ثمود فمن هول الأذى انسحقوا

أمَا سمعتم ب (نمروذٍ) وجوقته
عند التناظر لم تُرفعْ لهم عنق

حتى أعدّوا ل (إبراهيم) نارَهًمُ
فقيل: لا تحرقي ، لذلك احترقوا

فالله عطلَ – رغم الكيد - سُنتها
فأحرق الطيرُ في الجوزاء والوَهَق

أما (الخليلُ) فما مَسّتْ ذوائبه
نارُ الكفور ، كفاها الطيرُ والوُنق

والحق مهما انزوى فاللهُ ينصره
معي الأدلة ، والتاريخ متفق

وسُنة الله تمحيصُ الألى صمدوا
في حربهم ، وبركب المصطفى التحقوا

يا إخوة الحق: إن الحق منتصرٌ
وإن تناثرتِ الأشلاءُ والمِزق

فيم الركونُ إلى الأسباب في وجل؟
وغيرُنا – بنطاق النصر – ينتطق

إني أصارحُكم ، والحرصُ يملأني
فيم التقاعسُ والتخذيلُ والقلق؟

تمسّكوا بكتاب الله ، واعتصموا
بحبل طاعته كي يذهب الأرَق

ناشدتكم بالإله الحق ، لا تهنوا
كفى هواناً ، فإن الصف مُخترق

تمضي السنونُ ، وأنتم في تناحُركم
وبئس مهزلة وبئس مُنزلق

متى نبيتُ على عِز يُوحّدنا؟
أما استبان لنا السبيلُ والنفق؟

فهل سبيلٌ إلى درب يُجمّلنا
من بعد أن أغلقتْ من دوننا الطرق؟

لو كان في الأرض مِن بأس لشِرعتنا
ما مَزق المصحفَ المستكبرُ الفسَق

كلا ، وما رقصتْ في الدار راقصة
وما استبدّ بنا الصرصورُ والدلق

وما رأيتَ ذئابَ الغرب تنهشنا
والبعضُ نشكرُهم ، وبئس ذا خلق

ولم يُغن ، ولم يهزلْ مُخنثهم
ولم يَفحْ - بالزنا - لسانه الذلِق

ولم يَسُدْ في الورى قانونُ من كفروا
ولم يكنْ سادة أربابُه العُقق

يا رب لسنا بأهل كي تمكّننا
لكنّ جُودَك موفورٌ لمَن صدقوا

فتمم الفضلَ ، وارزقنا بصدق تقىً
إنا - بغيرك - يا منان لا نثق

© 2024 - موقع الشعر