اليتيم والوجه الآخر! (عذبه زوج أمه) - أحمد علي سليمان

اليتمُ سربلني ، والبؤسُ والألمُ
والحزنُ يذبحُ إحساسي فيَضطرمُ

والكربُ يسرقُ من نفسي مَباهجها
وخمّشتْ خاطري المُعذبَ النقم

والدمعُ في العين نهرٌ ليس يوقفه
كرّ السنين ، وفي بعض الدموع دم

والقلبُ تغمره الأشجان موقدة
نار المذلة ، يسعى خلفها الجَحَم

وزوجُ أمي أحال اليُتم خندمة
مِن الصراع تُزكّي نارَها التهم

في كل يوم يكيل الذل مُنتقماً
ولا يرد على فعل العتيِّ فم

والأم تقتات في المأساة حيرتها
ودمعُها في مَريع البؤس يَنسجم

تبيتُ تشكو إلى الرحمن محنتها
ويخطف النومَ من أجفانها الندم

طوراً تلف على البلوى عِباءتها
وتستكين لجُرحٍ ليس يلتئم

لتستريح ، وطوراً تشتكي شجناً
أهداه زوجٌ بموت القلب يتّسم

فإن خلوتُ بها كفكفتُ دمعتها
وذبتُ وجداً لحُسنٍ هَدّهُ السأم

وما بوسع يدي شيءٌ أجودُ به
حتى أبيد جحيماً بعضُه الحُمم

كَلٌ عليها أنا ، وإنّ ذا قدري
وإن أمي بربّ الناس تعتصم

لكنه العيش أشواكٌ مساربُه
وليس عبدٌ عن الحياة ينفطم

مطالبُ العيش أحنتْ ظهرَ والدتي
وأثقلتها دعاوى الناس والقصم

تناولتها بسوء في مجالسهم
وأغلب الناس لا دينٌ ولا قيم

حتى بصرتُ بها تلوك آهتها
وليس تحملها في الغمّة القدم

فصِحتُ: يا أم لا تأسَي ، ولا تهني
ولا تخافي الذي يطغى ويجترم

واستمسكي بعُرَى الإسلام تنتصري
إن المليك مِن الأفاكِ منتقم

هزي إليك بجزع النصر ، واحتملي
فإنما تغتذي بصبركِ الهِمم

والاحتياط لريب الدهر مَنقبة
ولا أظن التي تحتاط تنهزم

لا تيأسي: إن نصر الله موعدُنا
وإن تجمعتِ الجيوشُ والأمم

فارقتُ دارك يفري الحزنُ عاطفتي
في ظلمة الليل لا بدرٌ ولا نُجُم

أسير وحدي ، فلا خلٌ يُؤانسني
إلا الهواجسُ والآلامُ والظلم

وكِسرة أنتِ مَن زكّى مذاقتها
أخذتها عَلها في الجوع تُلتهم

وفي الشمال رِدا قدِ اشتراه أبي
عليهِ من ربنا الرضوانُ والرُحُم

وفوق ظهري خِمار زادني شرفاً
يختالُ يدفئني ، كأنه العلم

خِمار أمي وشيءٌ من ملابسها
ذكرى وذكرٌ به تُستلهم الشيم

وبين كفيَ قد حملتُ مُكحُلة
لكي يُزال بها في غربتي السخم

فإثمدُ الأم في أم الدجى لهبٌ
ومِرود الكُحل في عين النوى نغم

يوماً أعود ، وربي لن يُؤخرَهُ
قد استوى العيش دون الأم والعدم

لم تبرحي خاطري الملتاعَ ، أنتِ له
أنسُ الحياة وماءُ العيش والدعم

ولم يغب صوتك الصداحُ يُطربني
كأنهُ في وُجُوم الغربة الرنم

أني أراكِ بواد بتّ أسكنه
والدار تشهد لي والزرعُ والغنم

وعنكِ أحكي لأهل الحي قصتنا
فيسألون: هل استبيحتِ الحُرُم؟

حتى أقول لهم: أمي لقد غلبتْ
صدقاً على أمرها ، وربنا الحكم

فأحسنوا إن ذكرتم شأن والدتي
إني لتأسرني بحبها الرّحِم

وكنتُ آليتُ أن أحيا لها سنداً
أكون خادمها ، والسادة الخدم

أجودُ بالمال يكفي كل حاجتها
والابتسامة - فوق الكف - ترتسم

وأحملُ الأم - فوق الرأس - محتسباً
والبر نورٌ على درب الفتى تمم

وأبذرُ الودّ في الأفاق يُفرحُها
ويَسْطر الشعرَ من قلبي لها القلم

وأغرسُ الأمل المعطارً يَمنحُها
عز الحياة ، به الأشواقُ تزدحم

وأفرشُ الأرض بالريْحان يجعلها
شذىً يعانق نعليها ، ويلتزم

وأستكينُ لأمي كلما انفعلتْ
سخائمُ الصدر يُزْكِي جهلها اللمم

وأقسِمُ اليوم أني رهْن شارتها
دوماً ، ومبرورٌ التصميم والقسم

وأنصح الأم إن لاحتْ مُخالفة
باللين أنصحُها ، ولستُ أختصم

أذرّ نصحي بألفاظٍ مزخرفةٍ
وكم يُخفف زجرَ الناصح الكلم

وفي المواقف أُعْلِي شأن خاطرها
وإن رأيتُ قُوى الآراء تحتدمُ

أمي عرفتكِ للحقوق راعيةً
رعايةً تجعل الظلاّمَ ينفحم

أمي حجابك لي ذخرٌ ومفخرةٌ
والمرءُ يحترم الفتاة تحتشم

أمي سلمتِ مِن الطعون يُشهرها
نذلٌ لمَا يشتهي مِن الأذى نَهِم

أمي رعاكِ مليكُ الناس مؤمنةً
وردّ حقكِ مِن مُؤذيك مُنتقم

أمي عليكِ بتقوى الله ما بقيتْ
في الأرض نابتةٌ ، أو خُلّقتْ نسم

وسامحيني إذا ذكَرتِ فُرقتنا
بيني وبينكِ عقدٌ ليس يَنفصم

أمرُ المهيمن ، ما ذنبي وما خطئي؟
وليس يُسأل عما يفعل الحَكَم

أمي فلا تجزعي ، فاللهُ أكرمني
وجودُ ربكِ أمرٌ دونه العِظَم

أهدى اليتيمَ إباءً بعد ذلته
وأُغدقتْ فوقه الأموالُ والنِّعم

فأحمد الله مَن باليُتم جمّلني
حتى غدت حُرمتي في الناس تُحترم

وزادَني رفعة ربي ، وأعلمني
كتابَه الحقّ ، نِعمَ المنهجُ اللقم

يا أم فلتشكري مَن كان أخرجني
مَن لم يكن مِن فِعال الطفل ينسجم

لهُ جميلٌ علي الدهرَ أشكرُهُ
وهضمُ فضلِ الورى في مِلتي جُرُم

لولا مناوأة قد كان يقصدها
لمَا رآني كِرامُ الناس أبتسم

ووجهُه الآخرُ القاسي تعقبني
حتى غدا ليَ مِن بين الورى شمم

عزمتُ يا أم أن أعود مدّرعاً
بالصبر ، ثمّ بهذا الوعد أختتم

© 2024 - موقع الشعر