لزوم ما لا يلزم ( 25 - 32 ) - نجيب سرور

( 25 )
 
حوار مع أبى العلاء المعرى
 
...
 
- عم صباحا يا معلم !
 
- عم مساء كان أولى أن تقول ..
 
فصباحى كالمساء !
 
- لاترى الضوء ذُكَاء
 
وهى نبع للضياء ..
 
- قلت قبلا مثل هذا .. أو قريباً منه قلت :
 
" أتدرى الشمس أن لها بهاء ! " .
 
- أنت ما خَلَّفْت من شىء لشاعر ،
 
إِذْ تحديتَ فأعجزت الأوائل ،
 
والأواخر وأنا قد جئت في ذيل الأواخر .
 
فتجاوز عن قصورى .. أو تقبل كبديل ،
 
مثلا جاء من اليابان " طازة " :
 
" ترتمى الظلمة دوما تحت أقدام النهار ! " .
 
- مثل واللّه لا بأس به طابق الحال بياناً وبلاغة .
 
غير أنى لم أسغ قولك ( طازة ) .
 
بدلاً من قول ( طازج ) !
 
- سيدى كم حرت فى أمرك .. حقا لست أفهم ...
 
كيف يغدو ثائر القوم ولوعا بالقيود!
 
- كنت أهفو للخلود .
 
- كان يغنيك الذي يلزم عما ليس يلزم !
 
- لاتكونوا كالثعالب ..
 
تدعى في العجز زُهْداً فتسمى الكرم حصرم !
 
- ما عجزنا ويمينا بالخليل ..
 
كلنا قلنا من الشعر المقفى
 
قبل أن ننظم من غير المقفى .
 
- هات شيئاً من مقفاك القديم !
 
" هيئوا اللحد والكَفَنْ * ها هنا غاية البدنْ
 
مَلَّتِ النفسُ عيشَها * وغدتْ تطلب السَّكَنْ
 
شَدَتِ الروحُ للثرى * ليتها تقطع الرَّسَنْ
 
علها تعرف الذى * غاب في التَّيهِ و ادَّفَنْ "
 
ثم ضقنا بالخليل !
 
- ولماذا ؟
 
- مثلاً .. لو لم نقف عند " ادَّفن " .
 
لأَتَيْنا في تداعى القافيه ؟
 
" بالعفن " !
 
- ولكم جيل ولى في الشعر جيل .
 
غير أنى موقن أن " العفن " .
 
ربما يأتى بدون القافيه .
 
مثلما يأتى بحكم القافيه
 
- مستحيل !
 
- " وقد يفسد الفكر في حالة * فيوهمك الدر قطر السرا "
 
هات من أشعاركم بعض النماذج ..
 
كى نرى :
 
" طبق الأصل "
 
( أ )
 
" سيزيف قال لشهرزاد ..
 
الصخرة العمياء أدركها الصباح
 
وجناح ديدالوس ينشد للرياح ..
 
أنشودة الدم والجليد :
 
ما زلت .. ما زال العبيد ،
 
ما زالت اللعنات تجري في الوريد ،
 
ياريح ما زال الصديد علي الصديد ،
 
ما زالت اللعنات تجرى في الوريد ،
 
ياريح .. ما زال الصديد على الصديد ،
 
كالعجه الصفراء .. فاخسأ يا زيوس
 
يارب أرباب التيوس ،
 
أنا لم أعد منهم .. أنا ما عدت تيسا .. فاشهدى ياشهرزاد ! "
 
أبو العلاء : التيس ثار على التيوس ..
 
لاهُمَّ فالطُفْ بالعباد !
 
( ب )
 
نهداك ومصباح أحمر ..
 
قمعا سكر ،
 
فرخان بعش من مرمر ،
 
أرنبتان ..
 
قُبّرتان ..
 
وتران لقيثار أخضر ،
 
يا للأنغام اللبنية ،
 
النغمة ترقص للنغمة ،
 
وأنا في صدرك ثعبان ،
 
مجنون .. يشفط في الحلمة ..
 
حتى يسكر !
 
أبو العلاء : يازمنا ملعونا أغبر ..
 
من قال بأن الانسان ،
 
لا ينهش لحم ( النسوان )
 
في ضوء المصباح الأحمر ؟ !
 
( ج )
 
" أحداق تابوت على الأسياخ خفاش يموت :
 
وسعال برغوث يعوم بقلب حوت ،
 
والفأرة الحمراء مشنقه المغيب ،
 
والعنكبوت ..
 
في القِدْرِ مثل الثلج يغلي ،
 
وذيول قديسين ما زالت تصلى ..
 
للقرد .. والعرافة الشمطاء .. جمجمة تبول ،
 
والريح خازوق يطول ..
 
أبو العلاء : الريح خازوق .. وخازوق يطول ..
 
" هذا كلام له خبىء * معناه ليست لنا عقول "
 
أبو العلاء : " انما هذه المذاهب أسباب * لجلب الدنيا إلى الشعراء (4) "
 
ثم من باب الفضول ..
 
- سيدى هل استمر ؟
 
- بل كفانى وكفاك ..
 
" فرقا شعرت بأنها لاتقتن * خيرا وأن شرارها شعراؤها ‍‍‍‍‍!"
 
هم يلزمون - وحق ربك - لا أنا ما ليس يلزم ‍!
 
- سيدى .. هذى من " الشراح " بعض العينات .. !
 
تشرح القلب الحزين !
 
- ان يكن هذا هو ‍الشعر الجديد .
 
فيقينى أن يجىء الشرح ( شرحه ) !
 
" وما أدب الأقوام في كل بلدة
 
إلا المَيْن الا معشر ( شراح ) (5) "
 
ثم من باب الفضول ..
 
ياترى ماذا يقول اليوم عنى ؟
 
- أكثر الشراح في شعرك علكا والرواة ..
 
- ويلنا منهم .. وقالوا :
 
- متشائم !
 
- البهائم !
 
" فأَلْفَيْتُ البهائم لاعقول * تقيم لها الدليل ولا ضياء "
 
قل لهم كم همت حبا بالحياة :
 
" سألناها البقاء على أذاها * فقالت عنكم حظر البقاء "
 
- قلت في الموت الكثير ..
 
- كنت للموت غريما :
 
" وكيف أقضى ساعة بمسرة * وأعلم أن الموت من غرمائى "
 
كيف لا أكره ما يسرق منى ما أحب ؟
 
ثائراً كنت على الموتين : موت في حياة ..
 
وحياة بعد موت !
 
- سيدى .. من كان بعد الموت بين الغرماء ؟
 
- الرياء .. !
 
" وقد فتشت عن أصحاب دين * لهم نسك وليس لهم رياء ! "
 
- ما بتبريزك خلدت ولكن بتحدى الزيف أدركت الخلود .
 
- كان عقلى مثلما النسر سجينا في قفص ،
 
بزمان كان فظا " كالمغص " !
 
- هكذا حتما بحكم القافية !
 
- بل لقد ضاق بي الكون .. ومُذْ قال غيرى :
 
" وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
 
فيخرج من أرض له وسماء "
 
- أيها الثائر .. لم لذت بدارك ؟
 
- " أولو الفضل في أوطانهم غرباء ! "
 
- لِمَ لَمْ ترحل ..
 
- إلى أين الرحيل ؟
 
أى فرق بين أن أنفى بعصرى ،
 
لو تروم الصدق أو أنفى بدارى ،
 
أو أرانى ضائعاً في غير دارى ؟ !
 
- أى سر كنت تعنى حين قلت :
 
" ولدى سر ليس يمكن ذكره * يخفى على البصراء وهو نهار
 
أما الهدى فوجدته ما بيننا * سرا ولكن الضلال جهار "
 
- من عهد آدم قام للفهماء في الناس الرقيب كأنه الجزار !
 
- أنت كيخوت ..
 
- أبيت اللعن .. من كيخوت هذا ؟ !
 
- شاعر يعبر في كل العصور ..
 
- وضرير ؟ !
 
- بل بصير كالضمير ،
 
وشجاع كالضمير ،
 
وتعيس كالضمير ..
 
في زمان أجوف الجنبين .. معدوم الضمير !
 
- رحمة اللّه عليه وعلينا ..
 
" غلب المين مذ كان على الخلق وماتت بغيظها الحكماء ! "
 
( 26 )
 
العشاء الأخير
 
...
 
- غدا أكون على الصليب
 
أنا العريس !!
 
- نفديك بالدم يا معلم .. بالنفوس ..
 
- لاتكذبوا .. فلسوف يسلمني الذي منكم يشاركني الغموس !!
 
- أأنا أخونك ؟
 
- أنت قلت !
 
- ستنكرني ثلاثا قبلما الدَّيكُ يصيح .
 
-إنَّا لنقسم يا مسيح .. !
 
- لاتقسموا .. فغدا أكون على الصليب ،
 
وغد لناظره قريب !
 
( 27 )
 
لم الخداع ؟
 
إلى اللقاء - تقول - قل لهم إلى الأبد الوداع !
 
لا .. أنت تقتلهم إذا قلت الحقيقة ،
 
يا للحقيقة !
 
كالخنجر المسموم يغرس في قلوبهم الرقيقة ،
 
هل يجهشون وأنت تكتمها ، فماذا يفعلون ..
 
لو قلتها .. لو قلت للأبد الوداع ؟ !
 
لا .. لا مفر من الخداع ..
 
إلى اللقاء !
 
( 28 )
 
زرعت عند بابكم صفصافة ،
 
في فرعها علقت قلبى .. قلت : راحل حبيبتى الوداع ،
 
انى قرأت في كتيب قديم ،
 
نصيحة يقولها حكيم :
 
( يا أيها العشاق ..
 
لاتدعوا الهوى ،
 
من قبل أن تجربوا الفراق ! )
 
حبيبتى رحلت كى أجرب الفراق .
 
وساعة الرحيل
 
من قمحنا أخذت حفنتين ،
 
من نخلنا أخذت تمرتين ،
 
من قطننا أخذ لوزتين ،
 
من نيلنا أخذت جرعتين ،
 
من شعرك الجميل خصلتين ،
 
ومرت الأيام ..
 
اليوم يا حبيبتى بشهر
 
والشهر ياحبيبتى بعام
 
والعام يا حبيبتى كدهر ،
 
يا أيها الحكيم اني فارس العشاق ،
 
ما لوعة الأشواق ،
 
أنا الذي من بينهم عرفت ما الفراق ،
 
ما لوعة الأشواق
 
قلبى على صفصافتى يخضر لو تخضر ،
 
يرف لو ترف ،
 
يدف كالعصفور لو يداعب النسيم ..
 
أوراقها .. يخضل لو تخضل ،
 
يبتل لو تبتل بالمطر ،
 
يهتز لو تهزها الرياح ،يرتجف ،
 
يجف لو تجف .
 
صفصافتى أنا .. أنا أموت لو تموت !
 
( 29 )
 
ويلاه .. حتى أنت يا بروت ! ..اذن قد تم ثالوث المحال ،
 
( الغول والعنقاء والخل الوفى )
 
واذن فما في الأرض انسان ، وما تحت الجلود..
 
غير السعالى والثعالب والذئاب
 
أم علها أضغاث كابوس .. أحقاً بروث ؟
 
أغرز بصدري النَّصْلَ حتى آخر المقبض .. إما أن أموت ..
 
أو أن أفيق ! .
 
أم أننى من قبل كنت أعيش في حلم جميل ،
 
والآن أصحو كاليتيم على حريق !
 
هل كان حلما يا صديقى .. يا .. صديق ؟ !
 
باللّه لاتطرق وحدق فى .. حدق ..
 
لأغوص في عينيك حتى القاع ..
 
دعنى ألمس الغدر الدفين لكي أصدق .
 
جحران .. بل بئران .. بل قبران .. لا بل خنجران !
 
هاتوا إذن لوحا من الصوان
 
وأتونى بإزميل لأنقش فوقه رسم الخيانة .
 
الوجه وجهك يابروت ؟
 
وهناك في الأعماق يقعى قلب أفعى ..
 
يرحم اللّه الضحايا .. يرحم اللّه الضحايا .
 
( 30 )
 
يقولون هذا زمان يهوذا .
 
فياليتهم صدقوا الخبر ،
 
يهوذا أصاخ لصوت الضمير
 
وأسرع من عاره فانتحر ،
 
وأنت .. متى ياترى تستفيق
 
متى تستفيق .. متى تنتحر ؟ !
 
( 31 )
 
الألفاظ كما المرآه
 
ماذا يقبع للسعلاه ..
 
في المرآه سوء السعلاه ؟
 
ماذا يبسم للانسان ..
 
في المرآه سوى الانسان ؟
 
فى ألفاظك إعرف نفسك !
 
الألفاظ لها ميزان .
 
ثمة لفظ قد يكسبك العالم لكن .. تخسر نفسك !
 
ثمة لفظ قد يفقدك العالم لكن .. تكسب نفسك !
 
ذِنْ الفاظك تعرف نفسك ..
 
( 32 )
 
وتدعونى لمائدتك
 
فلا ألقى سوى جيفة ،
 
ألا فاهنأ بها جيفة ،
 
فلست ذبابة زرقاء تعزف لحنها الدامى على الموتى ،
 
لحاك اللّه .. هل تعمى لهذا الحد !
 
_____________
 
4- الأصل لدى أبى العلاء " إلى الرؤساء" .
 
(5) الأصل لدى أبى العلاء " معشر أدباء " .
© 2024 - موقع الشعر