مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ - أبو الطيب المتنبي

مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ "
" حُمرَ الحُلى وَالمَطايا وَالجَلابيبِ

إِن كُنتَ تَسأَلُ شَكًّا في مَعارِفِها "
" فَمَن بَلاكَ بِتَسهيدٍ وَتَعذيبِ

لا تَجزِني بِضَنًا بي بَعدَها بَقَرٌ "
" تَجزي دُموعِيَ مَسكوبًا بِمَسكوبِ

سَوائِرٌ رُبَّما سارَتْ هَوادِجُها "
" مَنيعَةً بَينَ مَطعونٍ وَمَضروبِ

وَرُبَّما وَخَدَتْ أَيدي المَطيِّ بِها "
" عَلى نَجيعٍ مِنَ الفُرسانِ مَصبوبِ

كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ "
" أَدهى وَقَد رَقَدُوا مِن زَورَةِ الذيبِ

أَزورُهُمْ وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي "
" وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي

قَد وافَقوا الوَحشَ في سُكنى مَراتِعِها "
" وَخالَفوها بِتَقويضٍ وَتَطنيبِ

جِيرانُها وَهُمُ شَرُّ الجِوارِ لَها "
" وَصَحبُها وَهُمُ شَرُّ الأَصاحيبِ

فُؤادُ كُلِّ مُحِبٍّ في بُيوتِهِمُ "
" وَمالُ كُلِّ أَخيذِ المالِ مَحروبِ

ما أَوجُهُ الحَضَرِ المُستَحسَناتُ بِهِ "
" كَأَوجُهِ البَدَوِيّاتِ الرَعابيبِ

حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ "
" وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجلوبِ

أَينَ المَعيزُ مِنَ الآرامِ ناظِرَةً "
" وَغَيرَ ناظِرَةٍ في الحُسنِ وَالطيبِ

أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها "
" مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ

وَلا بَرَزنَ مِنَ الحَمّامِ ماثِلَةً "
" أَوراكُهُنَّ صَقيلاتِ العَراقيبِ

وَمِن هَوى كُلِّ مَن لَيسَت مُمَوَّهَةً "
" تَرَكتُ لَونَ مَشيبي غَيرَ مَخضوبِ

وَمِن هَوى الصِدقِ في قَولي وَعادَتِهِ "
" رَغِبتُ عَن شَعَرٍ في الوجه مَكذوبِ

لَيتَ الحَوادِثَ باعَتني الَّذي أَخَذَتْ "
" مِنّي بِحِلمي الَّذي أَعطَت وَتَجريبي

فَما الحَداثَةُ مِن حِلمٍ بِمانِعَةٍ "
" قَد يوجَدُ الحِلمُ في الشُبّانِ وَالشيبِ

تَرَعرَعَ المَلِكُ الأُستاذُ مُكتَهِلًا "
" قَبلَ اكتِهالٍ أَديبًا قَبلَ تَأديبِ

مُجَرَّبًا فَهِمًا مِن قَبلِ تَجرِبَةٍ "
" مُهَذَّبًا كَرَمًا مِن غَيرِ تَهذيبِ

حَتّى أَصابَ مِنَ الدُنيا نِهايَتَها "
" وَهَمُّهُ في ابتِداءاتٍ وَتَشبيبِ

يُدَبِّرُ المُلكَ مِن مِصرٍ إِلى عَدَنٍ "
" إِلى العِراقِ فَأَرضِ الرومِ فَالنُوَبِ

إِذا أَتَتها الرِياحُ النُكبُ مِن بَلَدٍ "
" فَما تَهُبُّ بِها إِلّا بِتَرتيبِ

وَلا تُجاوِزُها شَمسٌ إِذا شَرَقَت "
" إِلّا وَمِنهُ لَها إِذنٌ بِتَغريبِ

يُصَرِّفُ الأَمرَ فيها طينُ خاتِمِهِ "
" وَلَو تَطَلَّسَ مِنهُ كُلُّ مَكتوبِ

يَحِطَّ كُلَّ طَويلِ الرُمحِ حامِلُهُ "
" مِن سَرجِ كُلِّ طَويلِ الباعِ يَعبوبِ

كَأَنَّ كُلَّ سُؤالٍ في مَسامِعِهِ "
" قَميصُ يوسُفَ في أَجفانِ يَعقوبِ

إِذا غَزَتهُ أَعاديهِ بِمَسأَلَةٍ "
" فَقَد غَزَتهُ بِجَيشٍ غَيرِ مَغلوبِ

أَو حارَبَتهُ فَما تَنجو بِتَقدِمَةٍ "
" مِمّا أَرادَ وَلا تَنجو بِتَجبيبِ

أَضرَت شَجاعَتُهُ أَقصى كَتائِبِهِ "
" عَلى الحِمامِ فَما مَوتٌ بِمَرهوبِ

قالوا هَجَرتَ إِلَيهِ الغَيثَ قُلتُ لَهُمْ "
" إِلى غُيوثِ يَدَيهِ وَالشَآبيبِ

إِلى الَّذي تَهَبُ الدَولاتِ راحَتُهُ "
" وَلا يَمُنُّ عَلى آثارِ مَوهوبِ

وَلا يَروعُ بِمَغدورٍ بِهِ أَحَدًا "
" وَلا يُفَزِّعُ مَوفورًا بِمَنكوبِ

بَلى يَروعُ بِذي جَيشٍ يُجَدِّلُهُ "
" ذا مِثلِهِ في أَحَمِّ النَقعِ غِربيبِ

وَجَدتُ أَنفَعَ مالٍ كُنتُ أَذخَرُهُ "
" ما في السَوابِقِ مِن جَريٍ وَتَقريبِ

لَمّا رَأَينَ صُروفَ الدَهرِ تَغدِرُ بي "
" وَفَينَ لي وَوَفَت صُمُّ الأَنابيبِ

فُتْنَ المَهالِكِ حَتّى قالَ قائِلُها "
" ماذا لَقينا مِنَ الجُردِ السَراحيبِ

تَهوي بِمُنجَرِدٍ لَيسَت مَذاهِبُهُ "
" لِلُبسِ ثَوبٍ وَمَأكولٍ وَمَشروبِ

يَرى النُجومَ بِعَينَي مَن يُحاوِلُها "
" كَأَنَّها سَلَبٌ في عَينِ مَسلوبِ

حَتّى وَصَلتُ إِلى نَفسٍ مُحَجَّبَةٍ "
" تَلقى النُفوسَ بِفَضلٍ غَيرِ مَحجوبِ

في جِسمِ أَروَعَ صافي العَقلِ تُضحِكُهُ "
" خَلائِقُ الناسِ إِضحاكَ الأَعاجيبِ

فَالحَمدُ قَبلُ لَهُ وَالحَمدُ بَعدُ لَها "
" وَلِلقَنا وَلِإِدلاجي

وَتَؤويبي
وَكَيفَ أَكفُرُ يا كافورُ نِعمَتَها "

" وَقَد بَلَغنَكَ بي يا كُلَّ مَطلوبي
يا أَيُّها المَلِكُ الغاني بِتَسمِيَةٍ "

" في الشَرقِ وَالغَربِ عَن وَصفٍ وَتَلقيبِ
أَنتَ الحَبيبُ وَلَكِنّي أَعوذُ بِهِ "

" مِن أَن أَكونَ مُحِبًّا غَيرَ مَحبوبِ
© 2024 - موقع الشعر