خارطة مصلوبة - فاديا غيبور

على جدار النومِ الرمليّ
 
في اليوم العاشر من أيلولْ... أستيقظُ ظمأى،
يتأرجحُ فوقَ شفاهي ما يشبهُ طعمَ الدمعِ المالحِ،
يتدفقُ في صدري ما يشبهُ ولولةَ الريحِ المجنونةْ
ودمي يتناثثرُ بين جهاتِ الخوفِ العشرينْ
فتعاويذي لا تَدرَأ عنّي همهمةَ الأشباحِ
الآتينَ على أجنحةِ الليلِ فُرادى
أوّلُهُمْ ذاكَ المتلثمُ بالقوسِ القُزَحيِّ
يُغمغمُ وهو يمدُّ الطرْفَ إلى الخارطةِ المصلوبةِ
فوقَ جدارِ النومِ الرّمليِّ، يهزُّ الصّمتَ بقبضةِ رعدٍ ثم ينادي:
قد آنَ لهذا الفارسِ أنْ يترجّلَ..
لكنّ رياحَ الحقدِ المجنونة
لا تسمحُ للوطنِ الفارسِ أنْ.. يتّرجلْ.
ثانيهمْ أقبلَ نحوي مبتسماً، وفرحْتُ
فرحتُ كيثراً، لكأنّ الثاني يحملُ وجهَ أبي،
أقسِمُ كان الثاني يحملُ وجهَ أبي،
أتقرّى طلعتَهُ السمحاءَ، وداعةَ عينيهِ الشّهلاوينِ
ظلالَ الحزنِ الأولِ
تَعبُرُ آفاقَ العينين الوادعتينْ
فأبي- أذكرُ- كانَ يُحِبُّ الأرضَ
وتملؤُهُ الأحلامُ الخضراءُ بيومِ النّصرِ ويومِ العودة!
وأبي كان يسبِّح بسمِ اللهِ
وباسمِ الأرضِ وباسمِ الشهداء الأبرارِ
السّجدةَ تلوَ السّجدةْ...
وأبي كانَ يخافُ الموتَ كثيراً،
لاطمعاً بالدنيا كانَ يخافُ الموتَ.. ولكنْ
أملاً بالفرح العربيِّ الموعودِ
بيومٍ- كان يُظنُّ- قريبٍ،
قربَ رموشِ العينِ إلى رفتّها، أذكرُ...
كنتُ أرتِّبُ- مازلتُ- تفاصيلَ الحبِّ الأولِّ
يومَ استلّ الموتُ حنانَ أبي
فطويتُ الحبَّ الأولَّ والأوراقَ الخضراءْ
وانبثَقتْ في أعماقي شلالَ رؤىً أحلامُ أبي،
أتراهُ اليومَ يَجيءُ كظلٍّ ليليٍّ لِيعاتِبَني؟!
وصرختُ.. وفوقَ شِفاهي
أسئلةٌ ودماءْ:
أبتاهُ.. اغفرْ لي أنّي لم أتقنْ يوماً
إلاّ موسقةَ الكلماتِ وحبَّ الأرضِ
فلماذا لم تورثْني
إلاّ موسقةَ الكلماتِ وحبَّ الارضْ؟
ولماذا حوّلت الوطنَ بصدري
عطرَ دماءٍ ومجرّات؟
لكنّ أبي- عذراً- لكنّ الشبحّ
الكانَ يُشابهُ حدَّ الحبِّ حضورَ أبي
ألقى إليَّ بقبضة صبرٍ
ثم تبَسّمَ كالأطفالِ وقالْ:
لا تئدي حلمَكِ في تابوتِ اليأسِ، انتفِضي،
مدّي كفَّكِ نحو جَنوب الرّوحِ وصلْي
لدمٍ يَرسمُ فوقَ جدارِ الحلمِ ربيعاً،
واحتضنيِهم، أطفالَ الأرضِ المحرومينَ
المضطهدينَ المقتولينْ..
مازالتْ أوراق دفاترِهمْ تحمِلُ تاريخَ الزمنِ الآتي
مُبتَدَأ بنهاراتِ الزيتونِ وأسئلةِ الليمونِ بيافا
وببعضِ هديلِ حمامِ القدسِ
يُفَرِّخُ كلَّ صباحٍ آلاف الأطفالْ...
وتلاشى مثلَ النسمةِ- حين تجيءُ وترحلُ- وجهُ الظلِّ
الكانَ يشابهُ حدّ الحبِّ حضورَ أبي..
ما كنت بحالمةٍ أبداً
فالوقتُ صباحُ العاشرِ من أيلولْ
وأنا مازلت أفتِّشُ في نشراتِ الأخبارِ
المرئيةِ والمسموعةِ عنْ نبأٍ عاجلْ..
..........
وَجْهُ الظلِّ الثالثِ ما كانَ غريباً،
هو يشبهُ بعضَ رجالِ مدينتِنا، قد يشبهُ أحمدَ أو
عبدَ القادرِ أو ذاكَ المزملَ بالأحزانِ علاءَ الدينْ..
حاولتُ مِراراً أنْ أتقرّى في عينيهِ كتابَ النخلِ الذاوي
فوقَ مرايا دجلةَ في بغدادْ،
حاولتُ تذكُرَ بعض عذاباتِ الأولادْ
وملاَمِحَ (ريتا) وهيَ تحاولُ تنسى
رُعبَ ليالي القصفِ
ورائحةَ الأمواتِ المنتشرينَ بدونِ قبورٍ
آنَ استوطنَ في الأعماقِ حدادْ
..........
الظلُّ الثالثُ لم يبدُ غريباً
حاولت كثيراً أن أتلمسَ فيه
وجهَ حبيبي الأولِ وهوَ يسافِرُ قبلَ سنينْ،
لكنَّ الوجهَ تبدلَ ثم تبدّلَ ثم تبد.. د ..لَ
فاستوطنَ في العينينِ رمادٌ قانٍ ودمٌ عبقيٌ
أطلعَ حقلَ شقائقَ ثم تورّدَ فوقَ الوجهِ ربيعُ القدسِ
وقائعُ (أيلولِ) الألفينِ يذرذرُ فوقَ الجُدرانِ الخرساءِ
دماءَ الوردِ التشرينيِّ الأولْ
والدّرةُ يصحو منْ دهشتِهِ
ويرّددُ مزهوّاً أسماءَ الشهداءْ
بدءاً من أوّلِ غصنٍ تشرينيٍّ
حتى آخرِ شجرة نورٍ ضوّأها
رجلٌ من وجدٍ منذورٌ لنداء الحريةِ
تولدُ من آيات دمٍ عربي يستيقظُ كلَّ صباحٍ
كي يرسمَ فوق وجوهِ الأطفالِ
مرايا فرحٍ ومجراتٍ مازالتْ
تنثرُ في سمواتِ اللهِ ضياءً وتصلّي
لتظلَّ بخيرٍ أقلامُ الأطفالِ، دفاترُهمْ،
وبقايا قطعٍ من حلوى
تنتظرُ على قاعدةِ الشُّباكِ العاري
إلا من أحزانِ اليوم الفائتِ
واليومِ القادمِ واليومِ المنتظر
على قائمة زغاريد النسوةِِ
أفراحَ الأطفالِ الشهداءْ...
هل كان المطرُ الأيلوليُّ قيامةَ هذي الأرضِ
النَّسيتْ ضحكتَها في ساحة حربِ الكلماتْ؟
هل كانتْ صرخاتُ جمالِ الدرّةِ
حينَ اقتطعوا من أغصانِ ذراعيهِ العاريتين هديلَ محمّدْ،
وبقايا أحلامٍ كانت تتورَّدُ كلَّ صلاةٍ
في العينين الضاحكتينْ: وأريدُ بلاداً يا أبتِ
لا يسرقُ خضرتها الغرباءْ
وأريد جواداً عربياً لأسابقَ هذي الريحَ الهوجاءْ،
وأريدُ.. أريدُ.. أري..
وانهمرَتْ نارٌ قربَ جدارْ،
ومحمّدُ هذا الطفلُ المثقلُ بالأحلامِ الغضّةِ صارْ
ميلادَ نهارْ..
وتدفّقَ في أوردةِ الأرضِ الظمأى
مطرٌ إعصاريٌّ من نارْ..
من منكمْ يذكرُ كيف تدفّق في أوردةِ الأرضِ الظمأى
مطرٌ إعصاريٌّ من نارْ؟
من يذكرُ كيفَ اخترقَ الموتُ تفاصيلَ الأخبارْ؟
كم من ْ نبأٍ جاءَ يزلزلُ هذا الباقي من نبضاتِ القلبِ
ويتركُ فوقَ مرايا الصمتِ ذهولاً يقتحمُ الأسرارْ؟
صاروخٌ يدخلُ من نافذةٍ فتحتْ للشمسِ ذراعيها،
يلتهمُ الشمسَ ويزرعُ في الشرفاتِ دمارْ..
كمْ منْ وردٍ
كانَ يبرعمُ فوق جبينٍ القمرِ الطفلِ
فيسرقُ من عينيهِ مداراً
كي يتخلّقَ منْ أبراجِ الصبرِ مدارْ
ياكلَّ مداراتِ الصبرِ العربيِّ انهمري أقواساً
من مطرٍ إعصاريٍّ..
دقي الأجراسَ ليومِ الثارْ
فعلى شرفاتِ الرّعدِ نذيرٌ آتٍ
يعلنُ أنّ الأرضَ ستلبسُ بعد قليلٍ زينتَها
وسيزهرُ في الساحاتِِ الغارْ
هل يزهرُ في الساحاتِ الغارْ!
© 2024 - موقع الشعر