على الشجرة - غادة السمان

منذ طفولتي و " هم " عيثا يحاولون اقناعي
 
بأن عصفورا في اليد
 
خير من عشرة على الشجرة !..
 
ولم أصدق تلك الاكذوبة أبد !..
 
جلدوني بسياط الغضب الاجتماعي
 
وعلقوني على شجرة التشهير
 
وقالوا انني ساحرة من رعايا الشيطان
 
وانني مسكونة بالشر الغامض كعرافات دلفي
 
وانني لست طيبة كبقية الصغار
 
الذين صدقوا أن عصفورا في اليد
 
خير من عشرة على الشجرة !..
 
وأراحوا وأستراحوا ...
 
وكيف أصدق أيها الغريب
 
أن عصفورا في اليد
 
خير من عشرة على الشجرة
 
وأنا أعرف أن العصفور في اليد
 
هو امتلاك لحفنة رماد
 
والعصفور على الشجرة
 
نجمة فراشة
 
حلم بلا نهاية ...
 
العصفور على الشجرة
 
هو دعوة إلى مدن الدهشة والمفأجاة
 
ونداء للسباحة تحت شلال الجنون المضيء ...
 
والعصفور في اليد
 
قيلولة في مستنقع الرتابة
 
واقامة في مدينة المقبرة
 
وحوار رتيب كالشخير !..
 
لا تصدقوا أيها العشاق الصغار
 
الذين لم تتشوهوا بعد
 
لا تصدقوا أن عصفورا في اليد
 
خير من عشرة على الشجرة !
 
بملء حنجرة أعماقي أقول لكم :
 
عصفور على الشجرة
 
خير من عشرة في اليد
 
فالعصفور على الشجرة هو البداية
 
هو دعوة للركض على قوس قزح
 
وانطلاقة فوق فرس بري
 
إلى عوالم حقيقة الذات
 
والعصفور في اليد هو كلمة " الخاتمة "
 
هو قفل في باب الخيال والهواجس
 
وتعايش مع قبيلة السلحفاة والنملة
 
وقالب معد سلفا لسجن كل ما هو نبيل وفريد فينا !..
 
من قال أن ريشة في مهب الرياح
 
ليست خيرا من حصاة مستقرة في قاع نهر راكد ؟!
 
أحبك أيها الغريب
 
أيها المشرد بين القارات
 
كسنونو اطلق الرصاص على الربيع
 
ورفض كل يد تحتويه
 
ورفض حتى غصنه
 
وسكن في الريح
 
وانطلق في الكون
 
مثل كوكب يرفض حتى مداره ...
 
أحبك أيها الغريب
 
وحتى حين تأتي إلي
 
برقتك الشرسة العذبة
 
وتستقر داخل كفي
 
بوداعة طفل
 
فإني لا أطبق يدي عليك
 
وانما اعاود اطلاقك للريح
 
واعاود رحلة عشقي لجناحيك _ وجناحاك المجهول
 
والغرابة ...
 
احبك
 
وأطفح بالامتنان لك
 
فقد حولتني
 
من مسمار في تابوت الرتابة
 
إلى فراشة شفافة مسكونة بالتوقد
 
قبلك كنت أنام جيدا
 
معك صرت أحلم جيدا
 
قبلك كنت اشرب ولا أثمل
 
معك صرت أثمل ولا اشرب
 
معك نبتت اجنحتي
 
وتطرزت أيامي بخيوط الشهوة الخضراء
 
وغسلتني امطار العنف والحنان المضيئة
 
وأبحرت في مدارات اللاشرعية
 
إلى كوكب التفاح الجهنمي
 
والثلج الملتهب الملون
 
كحريق في غابة !..
 
احبك أيها الغريب
 
بضراوة السعادة
 
وبرقة الحزن ...
 
فأنا أعرف جيدا
 
أن من يحب عصفورا على الشجرة
 
يكتشف مدى قدرته على العطاء والتوهج ...
 
لكنه أيضا
 
يكتشف مدى قدرته على الحزن
 
حين ترحل الشجرة بطائرها !
 
وأعرف أن رحيلك محتوم
 
كما حبك محتوم !
 
وأعرف أنني ذات ليلة سأبكي طويلا
 
بقدر ما أضحك الآن
 
وأن سعادتي اليوم هي حزني الآتي
 
ولكنني أفضل الرقص على حد شفرتك
 
على النوم الرتيب كمومياء
 
ترقد في صندوقها عصورا بلا حركة !
 
خذني اليك أيها الغريب
 
يا من صدره نقاء صحراء شاسعة ...
 
وعباءته الليل ...
 
وصوته حكايا الأساطير
 
ضمتني اليك
 
أنا كاهنة المغامرة
 
وسيدة الفرح _ الحزن توأم
 
ولنطر بعيدا عن مدينتهم
 
وشوارعهم وكرنفالاتهم
 
وغابة المهرجين والحمقى والطيور المحنطة
 
ولننطلق معا
 
مثل سهم ناري لا ينطفىء
 
ها هو ذئب الفراق
 
قابع في انتظار سقوطنا بين أنيابه
 
إذا سقطت
 
لن أشكو
 
أو أتلو فعل الندامة ...
 
المهك انني عرفت نشوة أن أطير
 
اغامر ... وأطير
 
وبك رفضت قدر ديدان الأرض !..
 
التقينا لنفترق ؟
 
فليكن !
 
خذني اليك الآن
 
وليرحل عنا الرحيل !
 
ضمني إلى جحيمك الرائع
 
وليرحل عنا الرحيل لا!
 
ومهما هددني الغد بالفراق
 
ووقف لي المستقبل بالمرصاد
 
متوعدا بشتاء أحزان طويل
 
سأظل أحبك
 
وبلحظتنا الكثيفة كالمعجزة
 
أتحدى الماضي والمستقبل
 
وكل صباح أقول لك :
 
أنا لك ...
 
لأنني اؤمن بأن عصفورا على الشجرة
 
خير من عشرة في اليد !
© 2024 - موقع الشعر