من دفتر شجون وهموم

للكتاب موقع الشعر، في مقالات،

من دفتر شجون وهموم

للكتاب: موقع الشعر،


يلعب الأستاذ الجامعي السعودي دوراً حيوياً في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، والأدبية، والسياسية التي تمر بها المملكة في الوقت الراهن.. أشعر بثقة كبيرة أن قارئ هذه العبارة سيهز كتفه تعبيراً عن عدم قبوله بما تضمنته أو أوحت به، وربما يقول: هذا كلام نظري منمَّق، وقد يمضي في قوله بأن كاتب هذه العبارة غير مدرك لواقع حال الأستاذ الجامعي السعودي الراهن، فالأستاذ الجامعي السعودي في واقع الأمر تقلَّص دوره ومشاركته الفعَّالة في حركة التنمية الشاملة الدؤوبة، ولم يعد أكثر من ملقنٍ ينثر معلومات حفظها عن ظهر قلب على مسمع طلابه، والمجتهد منهم ربما تجاوز ذلك فقام بكتابة بحوث معدودة على الأصابع يسعى لنشرها في مجلات علمية محكمة يقوم على قراءاتها شريحة معينة محدودة بغرض الترقية ذات المردود المادي والمعنوي المحدود.. ولذا فهو في الوقت الراهن أبعد ما يكون عن المشاركة بفعالية في مشروع التنمية الوطني الطموح، وتعزيز نمو أفراده على المستوى الشخصي والمعرفي.. وقد توارى عن دوره المأمول منه بعد أن تكالبت عليه الهموم المتنوعة، وفي هذه المقالة سنقلِّب صفحات من دفتر الأستاذ الجامعي السعودي لنقف على بعض من همومه وشجونه.

الهم المالي يأتي على رأس هموم وشجون الأستاذ الجامعي السعودي، فما يتقاضاه من مرتب لا يتوازى بحال مع تكاليف الحياة المعيشية الآخذة بالتصاعد يوماً بعد آخر، ولا يتناسب البتة مع مقدار ما يحصل عليه بالنظر إلى مكانته الاجتماعية المرموقة، أو التي تبدو كذلك كما يراه فيها أفراد المجتمع.. ومما زاد الأمر سوءاً أن كادرهم الوظيفي ظل يراوح مكانه أزماناً طويلة من غير بارقة أمل تلوح في الأفق القريب، والمردود المادي المنتظر من خلال الترقية لا يتواكب بأية حال مع تنامي أسرة الأستاذ الجامعي وازدياد مستلزماتها الاجتماعية، وزاد الأمر تردياً عندما يقارن بين ما يحصل عليه وما يتقاضاه أقرانه في دول مجلس التعاوني الخليجي، بل عند مقارنته مع ما يتقاضاه زملاؤه من مدرسي التعليم العام الذين رافقوه أثناء دراسته الجامعية.. ومن هنا فهي بالجملة تقل عن مرتبات أقرانهم محلياً، وإقليمياً، بل وحتى عالمياً.

وهذا الوضع أو الكادر المادي المتدني الذي لم يحقق للأستاذ الجامعي السعودي الحد الأدنى من الحياة التي يتمناها أدى إلى نتائج تعليمية سلبية خطيرة، فقد هاجر أو لنقل هرب الكثير من أساتذة الجامعات إلى جهات حكومية، أو مؤسسات القطاع الخاص، إذ بلغت نسبة تسرُّب أو نزيف الأساتذة الجامعيين السعوديين - حسب بعض التقديرات - نسبة هي الأعلى على مستوى دول الخليج والعالم العربي، والبعض اختار التقاعد المبكر، وذلك كله حرم الجامعات من الاستفادة من خبرات وإمكانيات هؤلاء الأساتذة، كما أدى ذلك إلى تحول نوعي في أولويات واهتمامات الأستاذ الجامعي الذي بدلاً من أن يتحدث عن مشاريعه البحثية، وما اطلع عليه مؤخراً في حقله العلمي، والمؤتمر العلمي الذي ينوي حضوره قريباً، والكتب والتأليف والنشر إلى الحديث عن أمور مثل الاستشارات الخارجية، والأسهم، والعقار، والمشاريع الاستثمارية الخدمية مثل المكتبات القرطاسية، ومحلات المواد التموينية، ومحطات الوقود، وغيرها، وهذا أيضاً أثَّر سلباً على أدائهم المهني التربوي داخل قاعات المحاضرات والمختبرات ومتابعتهم لأبنائهم الطلبة، ونوعية ومستوى المادة العلمية المقدمة للطلاب، وعلى إنتاجهم البحثي، وذلك أيضاً أدى إلى جعل الأستاذ أقل حماسة، وتركيزاً ورغبة في إجراء البحوث والدراسات التي تتناول قضايا المجتمع وتسهم في تطوره ورقيه.. وقاد ذلك الوضع أيضاً إلى خلق جيل مُربٍ مُحبطٍ يُخشى أن ينقل هذا الشعور السلبي إلى عقول الأجيال القادمة، وهو شعور يجد المرء له العذر فيه إذ إنه أمضى ما لا يقل عن ثلاثة عقود دارساً، ومن ثم يتقاضى راتباً يفوق العشرة آلاف بقليل، وبعد ذلك يعمل قرابة أربعين عاماً أستاذاً جامعياً، وفي النهاية يتقاعد وراتبه أقل من عشرين ألفاً.

ومصدر الشجن الآخر الذي يلف عالم الأستاذ الجامعي السعودي تحجيم دوره داخل وخارج أسوار الجامعة.. فداخل أروقة الحرم الجامعي تراه وقد انزوى دوره فقط لتأدية محاضراته دون أن يكون له أثر ملموس في بعث الحراك، والتخطيط، والتطور، والريادة لمحيطه الجامعي، وذلك أيضاً سرى على المجتمع الذي عطَّل وحجَّم دوره إلى درجة كبيرة.. فالمجتمع لم يعطه الفرصة كاملة ليسهم إسهاماً فاعلاً في إحداث نقلة نوعية في مسيرة البناء والتنمية الوطنية.. ومما عمّق الشعور بحالة التّقزم هذه أن الأستاذ الجامعي في أصقاع العالم والمتطور منه بخاصة يحظى بقدر كبير من التقدير في مراكز الدراسات والبحوث، بل وحتى من قِبل المؤسسات المدنية، ووسائل الإعلام لأنهم ينظرون له كقائد فكري يُعد الأجيال القادمة.. أما نحن فصاحب المنصب والوظيفة المرموقة هو من يستحق الاحترام والتقدير لا من يقف داخل قاعات المحاضرات معلماً وموجهاً، ومثقفاً.

وهذه النظرة الاجتماعية القاصرة قلّلت إلى حدٍ كبير من مستوى العطاء لتعليم عالي الجودة يقدمه الأستاذ الجامعي لتلاميذه لأن المجتمع بنظرته تلك جعلته لا يحس بقيمة ما يحمله من علم ومعرفة، وأدى هذا أيضاً إلى عدم مشاركة الأستاذ الجامعي مشاركة فاعلة في تقديم حلول وأفكار لمعالجة المشاكل الاجتماعية، والثقافية، والعلمية، والاقتصادية، كما أن هذا الموقف الجمعي تجاه الأستاذ الجامعي حدَّ كثيراً من اندماجه الفعلي في هموم المجتمع، واستثمار علمه في الرفع من سقف المستوى العلمي والثقافي لمحيطه، وهذه العزلة بين الطرفين جعلت عملية البحث عن أساتذة جامعيين لديهم الاهتمام، والرغبة الحقيقة في المساهمة في التنمية العامة، ونشر الثقافة والمعرفة مهمة في غاية الصعوبة.

والهاجس الآخر الجاثم على صدر الأستاذ الجامعي السعودي مصدره الأغلال الإدارية والنظامية التي تحد من حريته وانطلاقته.. فهناك العشرات من التعليمات، والأنظمة، واللوائح التي أقل ما تُوصف به أنها سلسلة من تعقيدات إدارية ونظامية يتناوب على إصدارها كل الأطراف المعينة من وزير التعليم العالي، إلى مدير الجامعة، إلى عميد الكلية، إلى رئيس القسم، ومسؤولي الشؤون الأكاديمية، والمالية، والإدارية في الجامعات.. كما أنهم محرمون من الحوافز، والانتدابات، والالتحاق ببرامج تطويرية وتدريبية متقدمة، ولا يسمح لهم إلا حضور مؤتمر واحد في السنة مدفوعة تذاكر السفر إليه من غير التزام بتكاليف الإقامة، ورسوم المؤتمر، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن العديد من أساتذة الجامعات يمضي سنين كثيرة في جامعته دون أن ينتدب ولو ليوم واحد، أو أن يُكلف بعمل إضافي يجني منه دخلاً إضافياً، ويزداد منه خبرة ومعرفة إضافية تُضاف إلى رصيده الأكاديمي، ولم يُكلف بعمل في اللجان العلمية والدائمة غير التطوعية.

وهذه الأغلال التنظيمية والإدارية قضت على روح الاستقلال لدى الأستاذ الجامعي، وجعلته أسيراً لمحاولات شتى لتأطير ورسم الخطوط العامة لشخصه، وفكره، وحاولت أن تحدد الملامح العامة للطريقة التي يسير بها عمله الأكاديمي، وطريقة تدريسه لمواده العلمية.. وقد حدَّت أيضاً من نزعة الإبداع لدى الأستاذ الجامعي لأنه يفكر يومياً بهاجس الوظيفة، والدخل، وأهمية عدم التجرؤ على المساس بالتقاليد الإدارية، أو العلمية، أو المفاهيم الثقافية، والسياسية، والاجتماعية السائدة حتى لا يتعرض للضغوطات التي ربما تحرمه في النهاية من وظيفته كأستاذ جامعي، أو من فرص هو أحق بها من غيره الأقل منه كفاءة بمراحل.

وإضافة إلى هذه الهموم يأتي همّ صعوبة التوفيق بين متطلبات الحياة، ودورة العمل الأكاديمي أو لنقل مستلزمات العملية التعليمية الجامعية.. الأستاذ الجامعي ليس مثل أقرانه موظفي الدولة الذين ينتهي ارتباطهم بعملهم بمجرد مغادرتهم لمكاتبهم، وإنما يمتد عملهم على مدار اليوم، إذ إن عليهم الإعداد لمحاضرات الغد، وإعداد بعض من واجبات الطلاب، وتصحيح أبحاثهم، والإشراف على مشاريعهم البحثية ومتابعتها، وهم بالتزامن مع ذلك يحاولون جاهدين العمل على تأمين استقرار عائلي لأسرهم ينطوي على تأمين حياة كريمة لهم، وامتلاك منزل خاص لا مستأجر لأسرهم، وقيادة مركبة غير متهالكة، وغيرها من مستلزمات الحياة الضرورية التي تتناسب مع المكانة الاجتماعية للأستاذ الجامعي وأسرته.

وأودُ أن أختم بتساؤل كان الأحرى أن افتتح به المقالة، لكنني آثرتُ أن أختمها به لأنني أردتُ أن استعرض هموم الأستاذ الجامعي السعودي، ومن ثم أُجيب على من قد يتساءل عن سر التركيز على مجموعة تشكل نسبة محدودة في مقابل كوكبة كبيرة لها إسهام في بناء لبنات التنمية الوطنية.. والسؤال الذي أتوقع أنه يدور في خلد الكثير: لماذا الكتابة حول هموم ومعاناة الأستاذ الجامعي السعودي؟

والجواب على ذلك أن وظيفة الأستاذ الجامعي تعلو فوق كل الوظائف والمهن الأخرى، لأن الأستاذ الجامعي بمثابة الركن الأساس لأي حركة تنموية، وهو ليس فقط صانع الأجيال القادمة وإنما صانع المجتمع، فدوره لا يتوقف - كما يتصور البعض - على محاضرات يلقيها في صفوف جامعته، وإنما هو مُشكّل الرؤى السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وباعثها، وريّان تحولاتها، وصانع الفكر، والمؤلف، وكاتب المقالات، والمفكر، والمبدع، والطبيب، والمهندس، والخبير، والرقم الأهم في مؤسسات ومراكز أبحاث المجتمع من خلال مشاركته الفاعلة في الرأي، والبحث، والتوجيه فيها.. وهذه الأدوار والمسؤوليات لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ما لم تُهيأ بيئة أكاديمية مناسبة خالية من الهموم والشجون، وما لم تحتوِ على الإمكانيات الضرورية اللازمة التي تضمن سلاسة واستمرارية في أداء وعطاء الأستاذ الجامعي، وهو الناتج الذي يُمثِّل حجر الأساس في بناء الوطن ورقيه، وعلو كعبه.

وقبل ذلك وبعده فإن التعليم العالي الذي يُشكِّل الأستاذ الجامعي أحد أركانه هو مشروع مجتمع بأكمله، وصورة مستقبله وغده، وتتداخل فيه عناصر كثيرة أهمها في الأولوية والأهمية واقع وحال الأستاذ الجامعي التي هي مسؤولية الجميع.. ومن هنا تظهر أهمية أن تتضافر الجهود لقطع الطريق على أية هموم مالية، واجتماعية، وإدارية قد تقف حائلاً بيننا وبين الاستفادة القصوى من قدرات، وإمكانيات وخبرات، وعلم علية كوادرنا الأكاديمية الوطنية.

الأستاذ الجامعي السعودي (د.خالد بن محمد الصغيّر)

© 2024 - موقع الشعر