الأخت الكُبرى الضحية! - أحمد علي سليمان

أهديكِ خيرَ تحيةٍ وسلامِ
يا رَبَّة الإحسان والإكرامِ

وأعَطرُ الترحيبَ فوَّاحَ الشذى
وأسوقُ للعصماء عذبَ كلامي

وأزخرفُ التفعيلَ رَنانَ الصدى
مُتبختِراً في حُلة الأنغام

وأتوِّجُ السمحاءَ تاجَ شَرافةٍ
من بعد رسم الفص بالمِرسام

وأخصُّ بالشعر الأصيل أخيَّة
بلغتْ ببذل العُرف خيرَ مَقام

وتفردتْ في كل جودٍ حِسبة
للخالق المتكبر العلام

وتجَرَّدتْ من حظ نفس تبتغي
عيشاً ترفعَ عن دُجى الآلام

وتجمَّلتْ بالبذل ينفعُ غيرَها
كي ينعموا في غِبطةٍ ووئام

وتحمَّلتْ أعتى المواقف ترتجي
للأهل عيشاً في بهي سلام

كم كابدتْ في العيش دون شِكايةٍ
من عجْز قدرتها مدى الأيام

كم قدَّمتْ من تضحياتٍ جَمَّة
تُفضي إلى الأهداف والآضام

كم رتبتْ أعتى الأمور بحكمةٍ
بنتائج في منتهى الإحكام

كم خططتْ خططاً لتُكْمل دَورَها
لم تلق مُر العيش باستسلام

كم ناولتْ نصحاً بدون ترددٍ
حتى يكون به بلوغ مُرام

والأم ماتت في ربيع شبابها
والكل يُسقى مِن كؤوس حِمام

مَن ذا سيُكْمِل دَورَ أم قد ثوتْ؟
ستقومُ ذي بالدور خيرَ قِيام

ستُعوِّضُ الأخواتِ عن أم قضتْ
ليَعِشْن في بُحبوحة الإنعام

سيَجدْن أنسامَ الأمومة غضة
أكرمْ بما تُسديه من أنسام

ولسوف ترعى والداً في شيبه
وتُحيطه بحنانها كغلام

والأبُّ قال: تزوَّجي ، واستمتعي
بالعيش وفق شريعة الإسلام

فالبدءُ بالكبرى طريقة قومنا
والعُرفُ مُعتبَرٌ لدى الأقوام

قالت له: كلا لأجلك يا أبي
ولسوف أحجمُ غاية الإحجام

ستضيعُ إنْ زوَّجتني يا والدي
وأنا سأشربُ كُدرة الإيلام

أنا في جوارك بَرة وسعيدة
أحنو على الأهلين والأرحام

زوِّجْ أخيَّاتي ، فهذي رغبتي
ولسوف تسلمُ من شديد ملام

والأبُّ نفذ ما ارتأتْه بُنيَّة
فتحتْ عليه بوعيها المتنامي

ورحلن عن دار سعِدْن بأنسِها
وتركْن فيها قسوة استذمام

لم يكترثن بوالدٍ أمراضُه
كثرتْ ، ولا يُشفى من الأسقام

ثم انقضتْ أيامُه ، وأتى الردى
والموتُ مكتوبٌ على الآنام

وأتين في ثوب الحِداد قوانتاً
وعوابداً في منسك الإحرام

وزواهداً في طِلبة الإرث الذي
ترك الفقيدُ ، ودونما استرحام

وأردن بيعَ البيت رغم وصية
بأخيةٍ بذلتْ بلا إرغام

قلن: الوصية لن ننفذ نصها
حتى ولو قد كان حَد حُسام

وأتى إليهم مشتر متعجِّلٌ
يبغي الشراءَ بدقةٍ ونِظام

فحكتْ أخيَّتُهم حكايتها التي
تُدمي فؤادَ المُخبت الفهام

والمُشتري لسِجالهن فما ارعوى
والبيعُ تم بدون أي سَوام

ورجَته كُبراهن إمهالاً إلى
حَل يُزيلُ مرارة الآلام

قالت: سأبحثُ عن بُييتٍ ، فانتظرْ
واشملْ بُكائي والرجا بلِثام

قال: اسْتلمتُن النقودَ ، فوقعي
أنا عنك بعد اليوم لستُ أحامي

قالت: أوقعُ ، ثم أمنَحُ فرصة
من بعدها لن تلق أي مَلام

والعقدُ في يُمناك ، فأمَنْ جانبي
تعساً لقِرطاس وللأقلام

ومضى ، وأغلق مشهداً دمِعتْ له
عينانِ: كلٌّ سُربلتْ بقتام

وبقيتُ رهنَ هواجس ووساوس
والجسمُ فوق جَنادل ورُكام

يومٌ يمر ، وآخرٌ يأتي ، ولي
في ليل كلٍّ أعجبُ الأحلام

والمُهلة ارتحلتْ ، وجاء المشتري
يبغي الوفاءَ بسابق الإلزام

فبذلتُ في اللقيا احتمالاً لاعجاً
وصَمَتُّ صمت الوُثن والأصنام

وطفِقتُ أبحثُ عن كلام لائق
لكنْ فمي لم يلق أي كلام

قال: السلامُ على زعيمة قومها
لكنْ لساني عافَ كل كلام

فذكرتُ ربي ، وادَّكَرْتُ هُنيهة
وأجبتُه ، وبدأتُ باستعلام

إنْ كنت جئت تُريدُ بيتك ، فاصطبرْ
لم ألق سُكنى ماجدين كِرام

والشهمُ قاطعني ، وأردفَ قائلاً
البيت مُلكك دونما استحكام

مّلكتُكِ البيت المَشَرَّفَ حِسبة
لا تسألي أبئسْ بالاستفهام

وإذا أردتِ زواجَنا ، فاستبشري
أوليكِ حُبي – صَدِّقي - وغرامي

وإذا أردتِ البيت دون زواجنا
فالعقدُ بين يديكِ فيه كلامي

فقرأتُ نص العقد والنفسُ احتفتْ
والعينُ قد نظرتْ سنا الأختام

وقبلتُه زوجاً لتُشرق عِيشتي
واللهُ عوضني بذا المقدام

والمهرُ كان البيت ، يا لسعادتي
حمداً لرب الناس ذي الإكرام

ما كان بي من نعمةٍ أدركتُها
فمن الإله الأكرم العلام

مناسبة القصيدة

(كأنها ضريبة ذل فرضَتْ وكُتِبتْ على الأخ الأكبر والأخت الكبرى في هذا الزمان العجيب! ُيضحِّيان لدرجةٍ لا حدودَ لها ، ثم يكون جزاءُ إحسانهما الإساءة الفجة لدرجة كذلك لا حدود لها! وضحية قصيدتنا أختٌ كبرى مخلصة ضحتْ بنفسها وأخرتْ زواجَها إلى سن الثلاثين ، بينما أخواتها النذلات لم يَردُّوا لها إحسانها بغير الإساءة! ولكن الله تعالى عوضها تعويضاً لا حدود لوصفه! فكيف بدأت قصتها ، وكيف انتهت؟! بدأت بأب ماتت زوجته ، ولديه (5) بنات ، تقدم لخطبتهن (4) رجال! فأراد الأب أن يزوِّج الكبيرة ثم التي تليها ثم التي تليها ثم التي تليها ، ولكن البنت الكبيرة رفضت الزواج لأنها أرادت أن تهتم بوالدها وتخدمه ، فزوَّج الأب أخواتها الأربع ، وجلست البنت الكبرى تهتم بوالدها وتعتني به حتى مات! وبعد وفاة الأب فتحوا وصيته ، فوجدوه قد كتبَ فيها: (لا تُقسموا البيت حتى تتزوج أختكم الكبيرة التي ضحَّت بسعادتها من أجل سعادتكم). ولكن الأخوات الأربع رفضن الوصية ، وأردن أن يبعن البيت لتأخذ كل واحدةٍ منهن نصيبها من الميراث ، دون مراعاة أين ستذهب أختهن الكبيرة التي ليس لها مأوى. ولما أحست الأخت الكبيرة أنه لا مفر من تقسيم البيت ، اتصلت بمن اشترى البيت ، وقصتْ عليه قصة وصيّة والدها ، وبأنها ليس لها إلا هذا البيت يأويها ، وعليه أن يصبر عليها بضعة أشهر ، لأنها أرادت أن تمكث في بيت أبيها حتى تجد لها مكاناً مناسباً تعيش فيه ، فوافق ذلك الرجل وقال: حسناً ، لا عليك. فتمّ بيع البيت ، وتم تقسيم ثمنه البيت على البنات الخمس ، وكل واحدةٍ ذهبت إلى بيت زوجها وهي في غاية السعادة ولم تفكر إحداهن في مصير أختهن الكبيرة ، ولكن الأخت الكبيرة كانت مؤمنة بأن الله لن يُضَيّعها لأنها لزمت مصاحبة والدها وعاشت في خدمته. مضت الشهور وتلقت الأخت الكبيرة اتصالاً من الرجل الذي اشترى البيت ، فخافت وظنت أنه سيطردها من البيت ، ولما أتاها قالت له: اعذرني أنا لم أجد مكاناً بعد. فقال لها: لا عليك أنا لم أحضر من أجل ذلك ، ولكني أتيت لأُسلِّمكِ ورقة من المحكمة ، لقد وهبتُ هذا البيت لك مهرًا ، إن شئتِ قبلت أن أكون لك زوجًا ، وإن شئتِ رجعت من حيث أتيت وفي كلتا الحالتين البيت لك. فبكت الأخت الكبيرة وعلمت أن الله لا يضيع عمل المحسنين ، فوافقت على الزواج من ذلك التاجر الثري ، وعاشت معه في سعادة تامة. زوج كريم ، وبيت أبيها!
© 2024 - موقع الشعر