عزائي وتأبيني للشيخ الصابوني! - أحمد علي سليمان

الأرضُ يُنقصُها قبضُ الأساطينِ
ممن علا شأنهم في الفقه والدينِ

حتى إذا قبضوا ساد السفيهُ بها
وأصبح العِلمُ بين الحَجْب والهُون

وتاجَرَ الغِرُ في دين المليك ضُحىً
بقول مُبتدع وعَرض مِنتين

وكابد الحقُ أغلالاً يَضيقُ بها
ذرعاً ، ودِيسَ بأظلاف التنانين

وكيف يسمو ، ولم تثأر طليعتُه
وكان - في أهله - فرداً كذي النون؟

والحق إن غاب حلتْ كل مفسدةٍ
وقننَ السوءَ أصحابُ الأواوين

وشرعنَ الباطلَ المكشوفَ مَن فسدوا
وبات تحميه آلافُ القوانين

واحلولكتْ ظلمة طمّتْ سَماجتُها
وغُربلَ القومُ بين الجهل والرون

ولم تعد قيمٌ والالتزامُ بها
وضاع حقٌ بتغييب وتزكين

واستُهجنتْ شِرعة تُزري بعلمنةٍ
ثم استساغ الغثا عبادة الزون

وأهدرتْ أطرُ الأخلاق دون حيا
فعِرضُ كل أصيل غيرُ مصوون

وعمّتِ الناسَ فوضى لا حدودَ لها
واستشرفَ الجهلُ بين الحين والحين

وخيّمَ الفِسقُ إذ راجتْ بضاعتُه
ولم تقمْ للهُدى أدنى مَوازين

فالقومُ قد عدِموا فذاً يُبَصّرُهم
بالحق يرفلُ في نور البراهين

لذلك اتخذوا الرؤوسَ جاهلة
تُفتي بجهل وتضليل وتلوين

وتستهينُ بشرع الله عامدة
مِن بعد أن زوّرتْ كل المضامين

ضل الغثا ، وأضلوا مَن يُسائلهم
برغم ما قِيلَ مِن مدح وتدشين

واليوم يرحلُ عنا شيخ صحوتنا
مَن في الدعاة تفانى (كابن صابوني)؟

يا شيخنا كنت فينا الشمسَ ساطعة
فنستنيرُ بها كل الأحايين

عقودك التسع فيها خير تجربة
ضاءت بسعي عظيم الأجر ميمون

وطِئت (أم القرى) تدعو لخير هُدىً
ولم يُشوّه حَلاها أي تدجين

طلابُك الشم فيك اليوم قد فجعوا
والدمعُ عَبّرَ عن آلام تأبين

مستذكرين شذى الأسفار إذ شطنتْ
إلى ديار نأت وراء (جيحون)

وبعدُ حَطتْ رحالاً في (بلنسيةٍ)
وبعضُها بات جَزلاً في (تطاوين)

ثلاثة من عُقود العُمر قد بُذلتْ
تُنقحُ العِلمَ في شتى الميادين

في (مكةٍ) وحدها في خير جامعةٍ
كانت تُؤلفُ بين العِلم والدين

والعِلمُ عندك مبذولٌ لراغبه
دوماً ، وتنصحُ نصحاً غيرَ مَضنون

مُصابُنا فيك أعتى من تحمُلنا
عسى تُراثك يُزجي بعض تهوين

عسى التآليفُ في البلوى تُصبّرنا
بما حوتْ من هُدىً صافٍ وموزون

عسى المراجعُ تُشجينا وتُتحفنا
بما تُقدّمُ من فحوى وتبيين

عسى نحصّلُ في الأسفار راحتنا
بما نعاينُ من علم وتدوين

عسى تُسامرُنا ذكرى محاضرةٍ
فيها ترد على البُله المجانين

عسى مناظرة تُعيدُ فرحتنا
فيها تصد هوى خِب ومأفون

عسى نراجعُ ما خلفت من خطب
أمست تُحاكي يواقيت الأساطين

عسى يكون عزاءُ إرثُ مرتحل
هذا المسطر في أحلى الدواوين

خلفت أمتك العصماءَ ثاوية
بجُرح آسيةٍ بالدمع مقرون

بكت عليك قلوبُ الصِيد مُذ علموا
أن قد رحلت ، فما هذا بمظنون

رحلت تسبقك الأجورُ ذاخرة
والأجرُ عند إلهي غيرُ ممنون

رحلت والمنتهى حقيقة ثبتتْ
بنص وحْي تسامى غير مطعون

رحلت بعد جهادٍ عَز طالبُهُ
وخصّك الله في الدنيا بتمكين

رحلت بعد عطاءٍ لا يُناوله
إلا فقيهٌ دعا بالعلم واللين

دعوت لله في سر وفي علن
ولم تُبال بإرعاد الفراعين

وكنت فندت ما صاغوه من شُبَهٍ
مما افترى (ماركسٌ) بكف (لينين)

وكنت أفحمت بالفتيا دجاجلة
تُزجي الدليلَ ، فلم تعمدْ لتخمين

وكنت فصلت أحكاماً تتيهُ بها
وسُقت في حبكها شتى الأفانين

وكنت فسّرت آياتٍ توضحها
فيها اقتديت بأسلافٍ ميامين

فلم تقدمْ هوىً يُخفي معالمَها
إذ لم تكن بالذي تهوى بمفتون

طالعت ما خطه في الدهر سادتُنا
وصُغت زبدة هاتيك المضامين

أسميتها (صفوة) حتى تُميزها
مما تدنى به أهلُ القرابين

ولم تُطوّعْ نصوصَ الوحي تصرفها
عن كل معنىً وراء النص مكنون

ولم تبعْ مثلما باع الألى هزلوا
آيَ الكتاب لمن يشري كعربون

لم ترجُ بالآي أموالاً تُؤملها
إن تخسر الدينَ ما جدوى الملايين؟

وكنت ناصرت أقصانا وصخرتنا
وكم بكيت على بلوى (فلسطين).

وكنت نددت بالعُدوان يأسرُها
مُذ أصبحتْ أمَة في أسر صهيون

فعاب غضبتك الزهراءَ مرتكسٌ
بقول منبطح غاف ومعفون

ودَسّ سُم التحدي في عُسيلته
كالسم منتثراً من فمّ أفنون

كأنما أشربَ التحريفَ طاب له
مستعذباً ما اشتهى في سِفر (تكوين).

أو أصبح الزورُ سِيجاراً يدخنه
مُستمرئاً فخرَه فينا بتدخين

أو أنه مارسَ التدريب مجتهداً
فأثمرتْ دُربة من بعد تمرين

على الثمانين زادت خيرُ مكتبةٍ
خططتها باجتهادٍ غير مدخون

في الفقه باعٌ ، وللتفسير حِصّتُهُ
خطتْ بحرفٍ من التوحيد مسنون

مِدادُها من سَنا القرآن مؤتلقٌ
وطِرسُها بهُدى الإسلام مَدهون

في كل نص لها ممن مضوا سلفٌ
وقد تُجددُ في بعض الأحايين

لكنْ على منهج الأسلاف ما انحرفتْ
فلا تعجُ بزلات الأظانين

وقد عزوت لذي قول مَقولته
وكنت في العَزو ثبتاً كابن زيدون

فما عزوت لعَمْر قول علقمةٍ
ولا مقالة سعد لابن مظعون

وكنت تضبط بالتشكيل أحرفه
فليس لفظ (يلاقينا) كيقطين

واللفظ كالشخص أبعاداً وأنظمة
فليس ذو عنق عال كمَودون

وليس لفظ سما فاحت عُروبتُهُ
كاللفظ جاء به مخاضُ تهجين

وكم دحضت فِرىً ما كان أكذبَها
أصحابُها اتصفوا في الدين بالدون

وكم أبنت سبيلَ الحق مُحتملاً
إفكَ الهلافيت أو مَكر الدهاقين

وكم كشفت أباطيلاً يُرَوّجُها
رهط مِن البُله أو جمع الشياطين

وكم خمدت ألاعيبَ الألى ظلموا
مِن بعد ما حَظيتْ دَهراً بتحسين

وكم هديت إلى هدي المليك فتىً
مُنِيتْ عزائمه بشر توهين

وكم ألنت لنا عَويصَ مسألةٍ
وحلها لم يكنْ يأوي إلى اللين

وكم أفدت بما سطرت مِن زبدٍ
كانت لمن جاسها مثلَ البساتين

وكم رميت بسيف الحق شر عِدا
ممن بغوا واعتدوا جهراً على الدين

وجندلوا سيرة الهادي (محمدنا).
أواه أواه من كيد الملاعين

ممن رأوا في دجى المستشرقين هُدى
فأشربوا كفرَهم من بعد تلقين

وقفت مدّرعاً تُزري بفتنتهم
وسيفُ حقك ماض في السكاكين

والسيف إما اغتدى في الحرب مشتهراً
فهل يبالي إذن بنصل سِكين؟

صُنت الأمانة إذ كُلفت مُؤنتها
وإن رأيت الغثا مالوا لتخوين

وكنت رغم ظلام الجو بدرَ دُجىً
وما بدتْ منك تصريحاتُ مَغبون

خضت المعامعَ ضرغاماً بساحتها
لمّا أدار الغثا رَحَى الأفانين

كلٌ بحَربة مَأجور ومرتزق
وخلفَ حَربته ظلامُ إسفين

يُعَلم الجرح والتعديل في مَلأ
مُزخرفاً درسَه ببعض تزيين

ولم يُحَصّلْ علوماً يستعينُ بها
على التناظر في عِز وتحصين

ولم يحُز لغة تكون عُدته
فلا يفرقُ بين السين والشين

قد استوى عنده سِلمٌ وخندمة
والزبدُ يأكله أمسى كسِرجين

وعنده استويا سُوآى ومَكرُمة
والبدرُ ينشرُ أنواراً كعرجون

وعنده استويا عَبدٌ وسيدُهُ
هل العُبَيّدُ مَذلولاً كعِرنين؟

وعنده استويا مَنٌ له عَبقٌ
بالأخبثين ، فهل مَنٌ كغِسلين؟

تعمّدَ النقدَ لم يَصحبْ لوازمه
بقلب مُفتئتٍ بالحقد مَشحون

فجَرّح الليثَ مُختالاً بفعلته
وبات ينفخ زوراً نفخ مَبطون

واستصحبَ الهرُ في جولاته هرراً
تموءُ تهزأ بالأسْد العَرانين

لمّا يحُز في الذي أدلى به ثقة
وكيف يوثق في غِر وملسون؟

ذرّ الأكاذيبَ في بيدٍ وفي حَضَر
بوجه مُنتصح وقلب تِنين

والشيخ أغرِقَ في فوضى مُغالطةٍ
ثم انطلى زيفها على المساكين

والافتراءاتُ ضمّتْ نصها كتبٌ
تُباعُ صُبحَ مسا – إي – في الدكاكين

سُمومُ فكر تُدسّي مَن يُخامرُها
وليس تصرفُ ذا فهم وتفطين

ساءلتهم: ما بكم؟ ماذا ألمّ بكم؟
قالوا اكتشفنا عيوباً عند (صابوني).

قلتُ: الهوينى إذن ، فالشيخ معتدلٌ
وراجعوه برفق غير مَشطون

ولا تثيروا لظى التشهير تحرقه
هذا يُغلّب وَسواسَ الشياطين

ومن رأيتم بلا عيب ولا خطأ؟
هيا اطرحوا في اللقا أسمى البراهين

الشيخ أخطأ في التفسير قلت: نعم
فكان نصحكم ضرباً من الهون

فالبعضُ كفره ، والبعض بدعهُ
والبعض ظن به أشقى الأظانين

والبعض فسقه ، والبعض زندقه
بكل حقدٍ بماء الكيدِ مَعجون

والبعضُ آثر نصح الشيخ في أدب
وكان في النصح ذا تقوى وتحسين

(فلابن باز) على الأسفار مَطعنُه
وليس مَقصدُه يوماً بمطعون

(والشيخ بَكْرِ أبو زيدٍ) له دررٌ
وليس مُتهماً – حاشا - بتخوين

(ولابن زينو جميل) بعدُ رؤيته
ونصحُهُ لم يكنْ يوماً بمَدخون

والشيخ (مُقبلُ) ساقَ النصحَ يُرشدُكم
يا شيخنا يبتغي خيرَ الدواوين

و(المَدخلي ربيعٌ) خط زبدتهُ
أمسى يُطالبُكم ببعض تحسين

أما (ابن صالح الفوزانُ) فابتشرتْ
بما ارتآه أساريرُ الميامين

مازال ينصحُكم بلا مُجاملةٍ
والتوصياتُ شدت بالرفق واللين

والشيخ (ناصر) أوصاكم ، وناصحكم
بحيدةٍ برئتْ من كل تدشين

و(لابن جبرينَ) كان السبقُ في مُلح
مِن التحاليل صَدّتْ كل مَمحون

بين الفريقين فرقٌ شاسعٌ لجبٌ
يُقاربُ الفرقَ بين الشيح والتين

تالله ما استويا طِيبٌ ومَخبثة
وما استقامة أشياءٍ كتحجين

شتان بين جمال الشَعر مُنسدلاً
وشَعر رأس لفرط الهُزء مشعون

شتان بين شيوخ نصحُهم ذهبٌ
وبين بُلهٍ لهم بَخ الثعابين

حييت كل الألى ساقوا نصائحهم
بدون أن يَزدروا عِلم الدياوين

ووافقَ الشيخ قوماً في نصيحتهم
وعارضَ البعضَ في فحوى ومضمون

وقال: مرحى بنقدٍ نستنيرُ به
والنقدُ إن لم يحايدْ غيرُ مأمون

أما التشفي بلا رُشدٍ ولا قِيم
فذا يُسَري عن العير الهوامين

أن يُضرب الصف من أعماق داخله
حتى تطيب التحايا للخراطين

ويبذلُ الكل أموالاً لنكبته
تعساً لهم ولأموال القوارين

والشيخ لم يستكنْ يوماً لهجمتهم
كأن خندمة في ساح (حِطين)

بل فندَ الشبه الرعناءَ محتسباً
عند الذي أمره بالكاف والنون

مستعذباً كل ما يلقاه من محن
مُثمناً ما يُقاسي خيرَ تثمين

همُ البُغاث ، وإن فازوا وإن غلبوا
وانظر لهم إن لقوا بأسَ الشواهين

وعندما هُزموا ثارت شراذمُهم
أبئسْ بكيدٍ شديد الوقع مَأفون

والشيخ لقنهم درساً يؤدبُهم
إن كان تنفعُهم دروسُ تلقين

فلم تقم لهمُ في الناس قائمة
إذ غلبوا نزعاتِ العِرق والطين

ولم تُرحّبْ بهم يوماً مَرابعُنا
ولم يُلاقوا صَدىً في الهند والصين

بل فتنة سُعِرتْ سُرعان ما انطفأت
إذ كل ردٍ أتى مثلَ الطواعين

جزاك ربك كل الخير أجمعه
ونلت أجرَ التلاحي غيرَ ممنون

واليوم يا سيدي فرداً تُودعنا
بخاطر مِن لظى التوديع مَحزون

رثاؤك اليوم دَينٌ في الرقاب غدا
لذاك سطرتُ توديعي وتأبيني

عساك يا خادم الوحيين تعذرنا
إن المصاب مضى بكل تزكين

وأنت في (تركيا) نأت مضاربُكم
مما يزيدُ أسىً ضراوة الحِين

إذ لم نغسّلْ ، ولم نشهدْ جنازتنا
والشعر أنّ بدمع جدُ مَهتون

ولم نُشيّعْ إلى القبور مَيتنا
فقد بُلِينا مِن المأساة بالرون

وإن (يالوفا) بالجثمان قد ظفرتْ
وكم حوى تُربها خيرَ الجثامين

عليك رحمة ربي دائماً أبداً
وخصّك الله في الجنات بالعِين

© 2024 - موقع الشعر