ذكرى الضياع - عبدالله النويهي

صار اللقاء من التَذكار وانصرما
وصرتُ أخشى بأن يطغى النوى قِدَمَا

وخط وجهي صدى ما كنت أعرفه
وصرت أعرفه لمّا مضى قُدُمَا

من لي بطلّة سحر قد علِقتُ به
لم أدرِ إن كان حياً أم رداه رمى

سرّي على شرخِ جرفٍ قد يبوح به
والخوف يزجر دمعاً في العيون هما

كُفّ المدامع إن القوم مرتقبٌ
ولو رأوك لزادوا ما بها زخما

كأنني خائن للدهر فانكشفت
منه الضغائن يوم العدل فانتقما

وخوخة الأمل المنشود ضائقةٌ
في الصدر تحسبها من ضيقها نجُما

خرجت من صلب داري ناقعا لهفي
ويا دمشق إليك السير قد قدما

وطلعة الفجر في الآفاق تسبقنا
والدرب تجهله أأعتل أم سلما

ما بال حوران يسهو في تشرده
والدرب يخبر ما من سره كتما

حولي ترابٌ وغيمات يخضبّها
من روح من قتلوا جرحٌ وسيل دما

سودٌ ديار الغوالي والطريق على
دربٍ من القهر في أكبادنا ارتسما

وكلّ حين كلاب النذل توقفنا
وغُصّ في الحلق وهنٌ للعيون طمى

عارٌ عليّ بكاءٌ والعدا برزوا
معاذ ربي فنفسي تبلغ الشمما

فصنت طرفي ونار القهر تحرقني
يا ليته الموت أو لو في العيون عمى

ولجت جِلّقَ لا هادٍ يرافقني
ونهر عائشة المعيا ينوح لمَ؟

أوهت شوارعها دبّابةٌ قطنت
أخرى بجانبها فالشارع انقسما

والشام زاحمةٌ سيراً كعادتها
وليس عادتها حزناً ولا ألما

فيا دمشق علام الدمع منهمرٌ؟
أين البشاشة؟ ما اعتدنا بك السقما

صبراً دمشق فبشرى النصر ساطعةً
من ثغر من صبروا رغم الأسى بسما

حتى وصلت إلى ما كنت أطلبه
كليّةَ الطب صرحاً في البناء سما

تخالني صنماً لمّا وقفت بها
كأنّ ما لي يداً أو ما ملكت فما

مدلّها والهاً عاث الفراق به
من جهد حرقته باح الهوى نغما

جلست وحدي أناجي الريح في كبدٍ
فعلها حملتْ أشواق من كُلِما

نحو الحبيب ولو طالت مسافته
يا ريح قولي له إعراضه ظلما

يا ريح بوحي له عمّا ألم بنا
من بعد فرقته حال الهنا عدما

سيري إلى حلبٍ في قصد طلتها
جعلتُ سري بأعناق الصبا ذمما

لم يبق لي في نساء الأرض فاتنةٌ
إلاّك يا من لها صدع الفؤاد نما

فكيف حالك؟ هل عانيت من أرقٍ
قولي فقولك يشفي الجرح والسقما

حملتُ همي على ضلعي فنُؤتُ به
أوهيت من حبّك الأضلاع والهمما

وجئت بالحب مذبوحاً ويحملني
كفّ المنون للذات الهوى هدما

يخالني المرء حيّا حين يبصرني
وجلّ ما كنّ في الأضلاع ما عُلِما

والمرء كاليمِّ لا تدري مرادمهُ
ما لم تغصْ فيه أو يخبرك ما رَدَما

جعلت قصدي زملكا حين شرّدني
شوق الأحبة ذباحا ومضطرما

قصدتها مثخناً بالهمّ أحبسه
والصبر للغيظ إن أظهرته كظما

حجم الدمار رهيبٌ لا حدود لهُ
طاغٍ عليه سكون للثرى وسما

سألت نفسي سؤالاً قد شككت به
هل كانت الدور يوماً للأنام حمى؟

وصلت ما كنت أبغيه فرحّب بي
من جيشنا الحرّ حرٌّ هلّ مبتسما

جلست بين جنود الحقّ يُحبرني
أن الأمانيَّ عندي لم تعد حلُما

يا للجراح على الأجساد فالتأمت
تلك الجراح وجرح الأرض ما التأما

حتّى أتانا أخي يُكسى بجعبته
يزهو برشاشه يرضى بما قُسما

سبحان ربك كم فارقته زمنا
وكنت محتسبا بالله معتصما

عانقته خانق اللوْعات من فرحي
ولا أُقاسمه أهلاً ولا عجما

وراح يروي ليَ الأحداث أصعبها
وكيف زلزل عرش الليل والظُلُمَا

سألتُ أصحابه عنه فجاوبني
أصحابهُ أنه نارٌ علتْ عَلَما

مجدامةٌ بطلٌ حُسْنٌ خلائقهُ
وقائد شامخ ينساب مقتحما

فيا أخي ما تراني فاعلاً حَسَناً؟
وقد أتيت بأمر الله محتكما

قال: امسح الآه عن أكباد من جرحوا
وضمّد الجرحَ في الأجساد والورما

فقلت: يا ابن أبي دعواك قد نُصرتْ
أبشر أخي إن هذا الأمر قد حُسما

سأنقذ الجرح لكنْ من سينقذني؟
وجرح قلبي من الأحباب ما التحما

صعب علاجي ودهري لا يعالجني
هذا قضاءٌ على المكلوم قد حُتما

أبغي الحبيب ودار المبتغى حلبٌ
ليست زملكا ولا عربينَ أو سَحَما

لها سناً وسناءٌ ليس يملكه
إلاّ المليكة حُسُناً توّجتْ عِظَما

ونظرةٌ تيّمتْ بدراً فأسمعني
في الليل صوتاً لذاك البدر قد رَنُما

فقلت يا بدرُ دع حبّي بمفردهِ
ولا تشاركنيَ الأوجاع والألما

إنّي غيورٌ وما قدّمت ضايقني
فكن وفيّاً بعهد الليل ملتزما

ألا تراني إذا ما العشق ألهمني
نظمت شعري ولاء العشق فانتظما

أريدها وحدها لا شيء يعدلها
قد اعتلت عندي الأقوام والأمما

من ذا يعوض قلبي سحر طلتها
أمّن يعوضه طرفاً لها ولمى

لمّا ذكرت هواها شكّ سامعهُ
وثَمَّ وجهي نحوي الجرم والتُهَما

وقال قومك في موت أحاط بهم
فما لقلبك بالأحباب قد غُرما

فقلت يا عاذلي مهلاً ومعذرةً
هل يا ترى صادق الأقوال قد أثما

لم أنسَ ما في بلادي مطلقاً وطغى
داء الهيام عليه خافقي رُغِما

فلْيشهد القوم أني لم أخن وطني
كلاّ ولكن قلبي بالهوى حُطُما

أبكي على وطنٍ أم من بلاء هوىً
أمران في القلب ينصبّان فاختصما

وقد هجرت زملكا قاضياً زمناً
لكفربطنا رسمت الدرب فارتسما

وقد رأيتُ أبا عمرانَ منطرحاً
فوق الفراش يعاني الجرح والألما

هوّنت عنه مصاباً حين آلمني
بطرفةٍ أسعدت عينيه فابتسما

وعشتُ فيها زماناً كلّه سَعَدٌ
بين الرفاق أداوي الجرح منسجما

وقيل حان وداعٌ عن أحبتنا
يا كفربطنا وداعا قلتها ألما

فسرت نحو بلاد العز أطلبهُ
وأرض دوما إليها أُنشد القَدَما

كأنّ قلبي إلى دوما يسابقني
إلى الإباء إلى ما يشبه الحمما

يا قلب مهلاً فأنت اليوم تعجلني
فكن على من حواك اليوم مرتحما

سُبيت منّي بدوما إذ عمت بصري
لمّا علتْ في فضاءٍ للعلا قمما

فكم وكم زرت بلدانا وأعرفها
لكنْ أُصنف دوما خيرها أدما

وإنْ سُئلتُ عن الأحرار قلت لهم
والله دوما وإنّي أُغلظ القسما

قابلت قوماً بدوما بالصفاءِ علوا
وبالأمانة والتقوى سموا قيَما

فيما يُسَمّى شفاءً قد سكنت بها
مكرّما بين قوم يعشق الكرما

نعم البناء شفاءٌ والورى شهدوا
أكرم به فبغير الخير ما اتسما

أُبدي لهم فرحاً والكد مختبئٌ
خلف الضلوع وفوق القلب قد جثما

قلبٌ يتوق لقلبٍ ليس يرحمه
والنفس حارتْ لقلبينا وما لَهُما

هذا يصيح وهذا ليس يسمعه
هذا يموت وهذا في الجفا نَعِما

ناداه ألف نداءٍ حين حنّ له
لا بل ملايينَ لا بل أجهل الرقما

قلب العذارى لبعض القوم متسعٌ
وواحد من هواه للفؤاد طمى

وما تبقى فهذا القلب يغدره
كأنه في يديها لعبةٌ ودُمى

سُئلتُ ماذا دهى عينيك فانتفضت
فلم أُجب وكأني مثخنٌ بَكَما

يا للهموم إذا عضّت فريستها
بفرصةٍ سَنٍحتْ للهمِّ فاغتما

هل أُخبر الهم، إني لست أُخبره
فالهم شل ليَ الأفكار والقلما

تركت كفّي بلا وعيٍّ أخطّ بها
قالت سأخبرك البلوى ومن حَرَما

همٌّ دهاك كساك الداء والألما
لمّا رماك رماحاً ما حماك حمى

وسال دمع وما للدمع حاسرهُ
وصار عودٌ لدهرٍ سالمٍ حُلُما

إلام حالك حول الدهر واصلها
والهم أوصلها آلامه كرما

أردفت دمعي حيال البوح أخبرها
كفّي كلامك إني ضائقٌ كَلَما

يا نفس صبراً فإن الله يفتننا
والله يفعل ما يختار لا جرمَ

سأقبل العيش بالإجهاد منتصراً
ولست أقبل عيش الرغد منهزما

وهذه قصتي ما عدتُ أكتمها
سحقاً لسرٍّ لأعضاء الحشا التهما

لعلَّ بعضاً من الأقوام شاركني
جرحي وعلّي ألاقي من له رحما

فإن أبوا فلقد عشت المدى نَكَداً
وقد تعودتُ أن ألقى الأسى حُزما

وقد تعودت إبصار الذين قضوا
بقانص مجرمٍ أو قاذفٍ رجما

وقد رأتنيَ بالإسعاف منهمكاً
زميلةٌ وكلانا خضّبته دما

قالت لعلّك تروي ما يكون هنا
وعلّ شعرك من لون الدما نُظِما

راحت تسائلني عمّا أتى بفتىً
من أرض حوران يرمي خلفه النِعَما

قد كان في حلبٍ يمضي دراسته
فما أتى بالفتى من أرضه ولمَ

فقلت والبسمة الغرّاء تلبسني
لي قصةٌ أصبحت من طولها حُلُما

حكايتي في شغاف القلب أُسكنها
وهبتها خفقاناً من دمي قُسما

كتبتها درراً بالشعر مطلعها
صار اللقاء من التذكار وانصرما

© 2024 - موقع الشعر