ليالي القاهرة - ابراهيم ناجي

-1-
في الظلام

أليلاي ما أبقى الهوى فيّ من رشدِ
فردي على المشتاقِ مهجتَه ردِّي

أينسى تلاقينا وأنت حزينةٌ
ورأسك كابٍ من عياءٍ ومن سهدِ

أقول وقد وسّدتُه راحتي كما
توسّد طفلٌ متعبٌ راحة المهدِ..

تعاليْ إلى صدرٍ رحيبٍ وساعدٍ
حبيبٍ وركنٍ في الهوى غير منهدِ

بنفسي هذا الشعر والخُصَل التي
تهاوت على نحرٍ من العاجِ مُنقدِ

ترامتْ ما شاءتْ وشاء لها الهوى
تميل على خدٍّ وتصدفُ عن خدِ

وتلك الكروم الدانيات لقاطفٍ
بياض الأماني من عناقيدها الرّبْدِ

فيا لك عندي من ظلامٍ محببٍ
تألق فيه الفرقُ كالزمن الرغد

ألا كُلُّ حسنٍ في البرية خادمٌ
لسلطانة العينين والجيدِ والقدِّ

وكل جمالٍ في الوجود حياله
به ذلةُ الشاكي ومرحمةُ العبدِ

وما راع قلبي منك إلا فراشةٌ
من الدمعِ حامتْ فوق عرش من الوردِ

مجنحةٌ صيغتْ من النور والندى
ترفُّ على روضٍ وتهفو إلى وردِ

بها مثل ما بي يا حبيبي وسيِّدي
من الشجن القتال والظمأ المُردي

لقد أقفر المحرابُ من صلواته
فليس به من شاعرٍ ساهرٍ بعدي

وقفنا وقد حان النوى أي موقفٍ
نحاول فيه الصبرَ والصبرُ لا يجدي

كأن طيوفَ الرعبِ والبين موشكٌ
ومزدحمَ الآلامِ والوجدُ في حشدِ

ومضطرمَ الأنفاسِ والضيقُ جاثمٌ
ومشتبك النجوى ومعتنق الأيدي

مواكب حُرس في جحيم مؤبد
بغير رجاءٍ في سلام ولا برد

فيا أيكة مدّ الهوى من ظلالها
ربيعاً على قلبي وروضاً من السعد

تقلصتِ إلا طيفَ حبٍّ محيّرٍ
على درجٍ خابي الجوانب مسودِّ

تردَّدَ واستأنى لوعد وموثقٍ
وأدبرَ مخنوقاً وقد غص بالوعدِ

وأسلمني لليلٍ كالقبرِ بارداً
يهب على وجهي به نفسُ اللحدِ

وأسلمني للكون كالوحش راقداً
تمزقني أنيابُه في الدجى وحدي

كأن على مصر ظلاماً معلقاً
بآخر من خابي المقادير مربدِ

ركودُ وإبهامٌ وصمتٌ ووحشةٌ
وقد لفها الغيبُ المحجبُ في بُردِ

أهذا الربيعُ الفخمُ والجنةُ التي
أكاد بها أستافُ رائحةَ الخلدِ

تصيرُ إذا جن الظلامُ ولفها
بجنحٍ من الأحلام والصمتِ ممتدِّ

مباءةَ خمّارٍ وحانوتَ بائعٍ
شقيِّ الأماني يشتري الرزق بالسهدِ

وقد وقف المصباحُ وقفة حارس
رقيب على الأسرارِ داعٍ إلى الجدِّ

كأن تقياً غارقاً في عبادةٍ
يصوم الدجى أو يقطع الليلَ في الزهدِ

فيا حارس الأخلاق في الحيِّ نائمٌ
قضي يومَه في حومة البؤسِ يستجدي

وسادته الأحجارُ والمضجعُ الثرى
ويفترش الافريزَ في الحر والبردِ

وسيارةٌ تمضي لامر محجبٍ
محجبة الأستار خافية القصدِ

إلى الهدف المجهولِ تنتهبُ الدجى
وتومض ومض البرق يلمع عن بُعدِ

متى ينجلي هذا الضنى عن مسالكٍ
مرنقة بالجوع والصبرِ والكدِّ

ينقبُ كلبٌ في الحطام وربما
رعى الليل هوٌّ وساهرٌ وغفا الجندي

أيا مصر ما فيك العشية سامرٌ
ولا فيك من مصغِ لشاعرك الفردِ

أهاجرتي، طال النوى فارحمي الذي
تركتِ بديدَ الشملِ منتثرَ العقدِ

فقدتكِ فقدانَ الربيعِ وطيبَهُ
وعدتُ إلى الإعياء والسقم والوجدِ

وليس الذي ضيعتُ فيك بِهَيِّنٌ
ولا أنتِ في الغيّاب هينة الفقدِ

بعينيك استهدي فكيف تركتني بهذا
الظلام المطبق الجهم أستهدي

بورْدِكِ أستسقي فكيف تركتني
لهذي الفيافي الصم والكثب الجردِ

بحبكِ استشفي فكيف تركتني
ولم يبق غير العظم والروح والجلدِ

وهذي المنايا الحمر ترقص في دمي
وهذي المنايا البيض تختل في فودي

وكنت إذا شاكيت خففت محملي
فهان الذي ألقاه في العيش من جهدِ

وكنت إذا انهار البناءُ رفعتُهُ
فلم تكنِ الأيامُ تقوى على هَدِّي

وكنت إذا ناديتُ لبيْتِ صرختي
فوا أسفاً كم بيننا اليوم من سدِّ

سلامٌ على عينيك ماذا اجنتا
من اللطف والتحنان والعطف والودِّ

إذا كان في لحظيك سيفٌ ومصرعٌ
فمنكِ الذي يحي ومنكِ الذي يردي

إذا جُرِّد لم يفتكا عن تعمدٍ
وإن أغمدا فالفتك أروع في الغمدِ

هنيئاً لقلبي ما صنعتِ ومرحبا
وأهلا به إن كان فتكُكِ عن عمدِ

فإني إذا جن الظلامُ وعادني
هواك فأبديتُ الذي لم أكن أبدي

وملتُ برأسي باكياً أو مواسياً
وعندي من الأشجان والشوقِ ما عندي

أُقبِّلُ في قلبي مكاناً حللتِه
وجرحاً أناجيه على القرب والبعدِ

ويا دار من أهوى عليكِ تحية
على أكرم الذكرى على أشرف العهدِ

على الأمسيات الساحرات ومجلسٍ
كريمِ الهوى عفِّ المآرب والقصدِ

تنادُمنا فيه تباريحُ معشرٍ
على الدم والأشواك ساروا إلى الخلدِ

دموعٌ يذوب الصخر منها فإن مضوا
فقد نقشوا الأسماءَ في الحجرِ الصلدِ

وماذا عليهم إن بكوا أو تعذبوا
فإن دموعَ البؤسِ من ثمنِ المجدِ ..

-2-
أنوار

طابت بكِ الأيامُ وافرحتاهْ
أنتِ الأمانيْ والغنى والحياهْ

فليذهبِ الليلُ غفرنا لهُ
ما دام هذا الصبح عقبى دجاهْ

يا من غَفَتْ والفجرُ من دارِها
شعشعَ في الآفاق أبهى سناهْ

قد طرق الباب فتىً متعبُ
طال به السير وكلَّت خطاهْ

نقَّل في الأيام أقدامَهُ
يبغي خيالاً ماثلاً في مناهْ

عندك قد حطّ رحال المنى
وفي حمى حسنِك ألقى عصاهْ

كم هدأ الليلُ وران الكرى
إلا أخا سهدٍ يغنِّي شجاهْ

ناداك من أقصى الربى فاسمعيْ
لمن على طول اللياليْ نداهْ

نادى أليفاً نام عن شجوهِ
عذبٌ تجنيه عزيزٌ جناهْ

أحبَّكِ الحبُّ وغنّى بهِ
غفَّ الأمانيْ والهوى والشفاهْ

وإنما الحبُّ حديثُ العلى
أنشودة الخلدِ ونحنُ الرواهْ..

-3-
أحلام سوداء

رُبَّ ليلٍ قد صفا الأفق بهِ
وبما قد أبدعَ اللهُ ازدهرْ

وسرى فيه نسيمُ عَبِقٌ
فكان الليلَ بُسْتَانٌ عَطِرْ

قلتُ يا رب لمن جمَّلته
ولمن هذي الثريات الغررْ..؟

فعرا الأفقَ قَتامٌ وبَدَتْ
سحبٌ تحبو إلى وجهِ القمرْ

كلما تقرب تمتد لهُ
كأكفٍّ شرهاتٍ تنتظر

صحت بالبدر: تنبَّهْ للنذرْ
ادركِ الهالةَ حفت بالخطرْ

لا تبحْ مائدة النور لهم
لا تبحْها لسوادٍ معتكرْ

قهقه الرعدُ ودوَّى ساخراً
فكأنَّ الرعدَ عربيدٌ سكرْ

قمتُ مذعوراً وهمت قبضتي ...
ثم مدت، ثم ردت من خَوَرْ

لهف القلب على الحسن إذا
قهقه الغربانُ والذِّئبُ سخرْ

تحتمي الوردةُ بالشوكِ فإن
كثر القطافُ لم تغنِ الابرْ

آهِ من غصنٍ غنيٍّ بالجنى
ومِن الطامع في ذاك التمرْ

آه من شك ومن حب ومن
هاجساتٍ وظنونٍ وحذرْ

كست الأفقَ سواداً لم يكن
غيرَ غيمٍ جاثمٍ فوق الفكرْ

طالما قلت لقلبي كلما
أنَّ في جنبي أنينَ المحتضرْ

إن تكن خانتْ وعقَّت حبَّنا
فأضِفْها للجراحاتِ الأخرْ

-4-
الميعاد الضائع

«في ليلة من ليالي القاهرة العصبية، وقفت تنتظره، ولكن حال بينهما القدر، وأقبل هو بعد ذهابها، فتخيل فزعها، ووحدتها، وحاجتها إليه، فجاءت هذه القصيدة عرضا لتلك الخواطر».
يا من طواها الليلُ في بَيْدائه

روحاً مفزعة على ظلمائهِ
تتلفتين إلي في أنحائه

لهف الفؤاد على الشريد التائه
إن تظمئي ليَ كم ظمئت إليكِ

جمع الوفاءُ شقيةً وشقيا
يا منيتي قست الحياة عليك

وجرت مقادرها الجسام عليا
أسفاً عليكِ وأنت روحٌ حائرٌ

والكونُ أسرارٌ يضيق بها الحجى
تجتاز عابرة ويسرع عابر

وتمر أشباح يواريها الدجى
في وجنتيك توهج وضرام

وبمقلتيك مدامع وذهول
وكذا تمر بمثلكِ الأيامُ

مجهولةً وعذابُها مجهولُ
وليت قبل لقائنا يا جنتي

لم تظفري مني بقول مسعد
وكعادةِ الحظِّ الشقيِّ وعادتي

أقبلتُ بعد ذهاب نجمي الأوحدِ
تتعاقب الأقدار وهي مسيئة

كم عقنا ليل وخان نهار
وكأنما هذا الفضاء خطيئة

وكأن همسَ نسيمِه استغفارُ
وكأنه أحزانُ قومٍ ساروا

هذي مآتمهم وثم ظلالها
عفت القصور وظلت الأسوار

كمناحة جمدت وذا تمثالها
ران السواد على وجودِ الدورِ

وسرى إليّ نحيبُها والأدمعِ
وكأنني في شاطئ مهجور

قد فارقته سفينة لا ترجع
حملتْ لنا أملاً فلما ودَّعت

لم يبقَ بعد رحيلها للناظر
إلا خيال سعادة قد أقلعت

ووداع أحبابٍ ودمع مسافر
-5-

اثنان في سيارة
العمرُ أكثرهُ سدى وأقلُّهُ

صفوٌ يتاحُ كأنه عمران
كم لحظةٍ قصرت ومدت ظلَّها

بعد الذهاب كدوحة البستانِ
ويمر في الذكرى خيالُ شباَبها

فكأن يقظَتها شبابٌ ثاني
مَنْ ذلك الطيف الرقيق بجانبي

كفّاه في كفَّيَّ هاجعتانِ
لكأننا والأرضُ تُطوى تحتَنا

نجمان في الظلماءِ منفردانِ
لكأننا والريحُ دونَ مسارنا

خطان في الأقدارِ منطلقان
إني التفت إلى مكانك بعدما

خليتهِ فبكيتُ سوء مكاني
هل كان ذاك القربُ إلاَّ لوعةً

ونداء مسغبةٍ إلى حرمان
حمى مقدرة على الإنسان

تبقى بقاء الأرض في الدورانِ
وكأنما هذي الحياة بناسها

وضجيجها ضرب من الهذيانِ
-6-

لقاء في الليل
«كان اللقاء في ظلمات القاهرة الحالكة أيام الغارات وقد تم هذا اللقاء تحت الفزع والظلمة والخوف»

قالت تعال فقلت لبيكِ
هيهات أعصيْ أمرَ عينيكِ

أنا يا حبية طائر الايك
لم لا أغني في ذراعيك

أفديكِ مقبلةً على جزعِ
بسطت إليَّ يمينَ مرتجفِ

وبها ارتعاشة طائر فزع
من قلبها تسري إلى كتفي

فتلفتّتْ كحبيس أشراكِ
وحكى اضطراب الموج نهداها

وأخذت أدفئ بردها بفمي
لو تنفعن حرارة القبل

قلتُ اهدئي لم ثورة الندمِ
كفّاكِ ترتجفانِ يا أملي

وجذبتُها بذراعِها نمشي
نمشي وما ندري لنا غرضا

إلفان قد فرا من العش
يتبادلان سعادة ورضا

يا لحظة ما كان أسعدها
وهناءة ما كان أعظمها

مر الغريب فباعدت يدها
وخلا الطريق فقربت فمها

كشفت لعينيْنا وقد ومضت
ظلين مقنعين في السورِ

ضحكت لظلينا وقد عجبت
مما يخال فؤاد مذعور

وكأن ضحكتها وقد طربت
قطرات ماء فوق بلورِ

عوذتها من شر أمسية
تعيا بها وتضل أبصار

وكواكب ليست بمجدية
ظلم مكدسة وأحجارُ

عثرت بها فرفعتها بيدي
جسماً يكاد يشف في الظلمِ

ويرف مثل الزهر وهو ندى
ويخف مثل عرائس الحلم

وكأنني مما يسوء خلي
وحياتيَ انجابت حوالكُها

أرمي الطريق بناظري رجل
وأنا لها طفل أضاحكها

ملكتها الدنيا بما وسعتْ
وأنا أهامسها بأسراري

وأسرها بحكاية وقعت
ورواية من نسج أفكاري

وإذا الطريق يسير منعطفًا
وإذا رياح تضرب السدفا

وكأن منها منذرا هتفا
بلغ المسير نهاية، فقِفا

يا توأما من صدري انتزعا
يا من دعا قلبي له فسعى

لم أيها الداعي هواك دعا
والدهر يأبي أن نظل معَا

أقسم بأنك عائدٌ لهما
إني لممدودُ الذراعينِ

-7-
ختام الليالي

الليالي! يا ما أمرّ الليالي
غيبتْ وجهك الجميل الحبيبا

أنت قاسٍ معذبٌ ليت اني
أستطيع الهجران والتعذيبا

ان حبي إليك بالصفح سبّاقُ
وقلبي إليك مهما أصيبا

يا حبيبي كان اللقاءُ غريبا
وافترقنا فبات كل غريبا

غير أني أستنجد الدمعَ لا ألقى
مكان الدموعِ إلا لهيبا

آه لو ترجع الدموعُ لعيني
جف دمعي فلست أبكي حبيبا

© 2024 - موقع الشعر