دعني أتنفس في الخزان

للكتاب: أحمد فراج العجمي،


دعني أتنفس في الخزان

أحمد فراج العجمي

عندما يتعلم الإنسان الغوص ، أو يجربه لأول مرة، يجده شاقا ، وإذا استبدل الماء الذي يغوص فيه بالكلمات لكان الغوص فيها أشق، ويزيد من هول التجربة وصعوبة الرحلة إذا كانت الكلمات التي يغوص فيها هي كلمات رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني ، هي أشبه ما يكون بغوص مروان - ابن السادسة عشرة – في المقلاة.

لكنك لابد ستتوقف عن الغوص عند جملة لا تعرف كنهها ، ولا المقصود منها، ولا الرمز فيها، ولكنك فقط تعرف هذا الصوت المدوي الذي تردده صحراؤك معك، ويزلزلك عندما تمر عينيك على حروفها الظاهرة، وتعرف هذه القشعريرة التي تنتابك عندما تتوقف عندها . لابد أنك ستتوقف ، لا لأنك قد انتابتك قشعريرة فقط، ولا لأن القصة قد انتهت بهذه الجملة، ولا لأن الشخصيات قد انتهت أدوارها بين ميت الجسد على أكوام القمامة وميت النفس على أكوام الطمع، ولكن الأهم أنك ستتوقف ..... ؛ لأن الجملة تستحق التوقف .

أتدرون هذه الجملة ..؟

لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟ لماذا؟

لماذا؟

لماذا؟

لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ .. هي هذه الجملة .

أرأيتم؟

لقد صدقت .

لا بد أنكم توقفتم معي عند هذه الجملة ، لا تعرف لماذا؟ لكنك قد توقفت .

لذلك لم يجد توفيق صالح – المخرج الذي أخرج الرواية في " فيلم

سينمائي" وسماه " المخدوعون" – لم يجد مناصا عن الهروب من هذه الجملة ، وتغيير سياقها ودلالتها ، فحرك هذه الأيدي الميتة ، وأنطق هذه الجدران الخرساء ، وأوقد هذه العزائم المنتحرة، وأعار الشخصيات يدا من حديد لتقرع بها جدران الخزان لكن أحدا لم يسمعها، المهم أنه حذف هذه الجملة المحيرة التي تضع أمامها إشارة مكتوب عليها "توقف" .

أتدرون؟ إنني أوافق هذا الفكر الرائق لهذا المخرج في هذا التعديل، وأقتنع بحذف هذه الجملة المحيّرة، وأتركها لهذا الصدر الواسع – صدر غسّان رحمه الله وصدر أحفاده – لتدور فيه وتخرج رائحتها من عينيه التي طالما نظر إلى مستقبل هذا الوطن. وتألمت لمعاناة الشعب الفلسطيني .

لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

هذا الخزان الذي لا أدري هل لازال موجودا على الحدود الكويتية العراقية في المكان الذي تركه الكاتب مع قائده " أبي الخيزران " أم أكله الزمن، وحطمته الصحراء، وذاب في هذه الشمس الحارقة؟ أم أنه انتقلت منه عدة نسخ إلى جميع حدودنا النفسية والمكانية التي وضعناها لأنفسنا؟

هذا الخزان الذي صُنعت مثله مئات الألوف ، بل ملايين الخزانات ، حتى صار لكل واحد خزان مناسب لمقاسه وحجمه، يعيش هو في الخزان أو الخزان هو الذي يعيش فيه.

هذا الخزان الذي اتسعت جدرانه فأصبح وطنا تكيّف الجميع على البقاء فيه، ومن يتحرر منه فإنه لا يعرف إلا فوهة واحدة، ولكنها ليست كفوهة خزان الرواية، بل إنها ليست ككل الفوهات، فكل الفوهات لأعلى وهذه الفوهة لأسفل، ملتصقة بالأرض، يخرج المتحرر من الخزان ليهوي إلى خزان آخر لكنه من تراب ، قد يكون أهون كثيرا من الخزان الذي هو في الأعلى.

هذا الخزان الذي قد تكون هناك محاولات فردية للخروج منه بصنع فوهة جديدة إلى أعلى تبشر بالحياة ، ولكن ما تلبث هذه المحاولات إلا أن تفشل، فإما أن تأكله الشمس، أو يسحقه الحراس .

عم الهدوء وساد الصمت، وأوشك الهواء على النفاد، بدأ البعض يعض على يديه، ولكن لا يستطيع أن يهمس، دقات القلب بدأت تتأرجح دون نظام، بعض هذه الدقات تلكم الشعور لكمات عنيفة، والبعض الآخر كاد يقفز من هذا القفص الصدري الذي يشبه هذا الخزان الذي نعيش فيه، بدأت تخترق الأفق بعض الزفرات العنيفة فتكسر حاجز الصمت المطبق، معلنة بدء الاختناق وقرب التحرر إلى الخزان الترابي المريح، من يختنق فعليه بالنزول ، وكل المشاهدين اتفقوا على الصمت، ورفضوا أن يضعوا أيديهم على جدران الخزان وفضلوا البقاء بجوار حيطانه صامدين إلى النفس الأخير.

وربما قطع صبرَه رجل ذو شفاعة فيسير بخطى مشكوك فيها طالبا الكلام مخافة أن ينساه ، فيأذن له الحراس من باب الدعاية والتسلية.

صار الهواء أقل من أن يوصف، وبدأ البعض يدخر من أنفاسه لتبقيه أطول فترة ممكنة على قيد الحياة، وأعجب من ذلك صار البعض يتاجر في الهواء .

وبعد عدة قرون .

ثمة فتية في مؤخرة الكهف " الخزان" طالت شعورهم وأظافرهم من طول البقاء، جربوا هذه اليد التي ظنوا أنها قد ماتت فإذا بها تطاوعهم، زحزحوها عن هذه الأجساد البالية ومرروها على جسد الخزان القديم بكل حذر، يقول أحدهم للأخر : فقط نريد الحياة.

وصل أمرهم

إلى الحراس بواسطة من يملكون الشفاعة ، وكانوا قد ثقبوا في الجدار ثقوبا بعددهم، وبدؤوا يشتمّون الهواء النقي، ويتدفق عليهم أهم مقوم للبقاء.

انهال الحراس عليهم بكل يد جبروتية عرفها الزمان من لدن آدم؛ خوفا من أن يشم هذا الهواء النقي آخرون، أبعدوهم عن الجدران ووضعوا أكفهم الغليظة الثقيلة على هذه الثقوب يمنعون النور والهواء، اندفع أحد هؤلاء الفتية إلى أحد الحراس بقوة ونزع يده قائلا: دعني أتنفس في الخزان .

© 2024 - موقع الشعر