معلومات عامة
تمت الإضافة
الدولة
العصر الجاهلي
الموسوعة إضغط هنا
المعلومات المتوفرة عن الشاعر

المخَبَّلُ السَّعْدِيُّ ميلاده وَنشأته ـــ بسّام الزعبي

ما من خلاف في أن المخبل من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وعُمِّروا طويلاً فيها (1). وقد امتدت حياته في الإسلام إلى نهاية خلافة عمر، وربما عاش طرفاً من خلافة عثمان، وهذا يعني أن شاعرنا عاش نحو ربع قرن بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإذا أضفنا إلى هذه المدة تلك السنين التي تفصل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عن هجرته، فيكون المخبل قد سلخ من حياته نحو خمسة وثلاثين عاماً في الإسلام. ولكن الأمر المحيِّر هو مبلغ عمر الرجل بشقيه الجاهلي والإسلامي.

ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً هو ذلك الاضطراب الذي يعتري أخباره، فلا تكاد تعين في أن نقيم منها تصوراً واضحاً ودقيقاً لمراحل حياته، شأنها شأن ما نراه في اسمه واسم أبيه وجده، وما أصابها من اضطراب واختلاف.

وهذه الأخبار ـ على قلتها وتناثرها في بطون الكتب ـ يغلب عليها التعميم وتتسم بالإثارة والطرافة، وهي في مجملها تصور الشاعر رجلاً ناضجاً، ذلك أن الرواة يضنون بأخبار نشأته الأولى، حاله حال الكثير من شعراء الجاهلية. وعليه فليس من اليسير الوقوف على زمن ولادته أو كيفية نشأته وترعرعه، فضلاً عن معرفتنا يقيناً بزمن وفاته.

ولذلك كله لابد من ضم جميع الأدلة المستقاة من أخباره وأخبار من كانت لهم صلة به بعضها إلى بعض. إضافة إلى ما يمكن أن يستخلص من شعره فيعين في تحديد مولده على وجه التقريب ويسهم في رسم صورة ـ شبه واضحة ـ لهذا الرجل الذي امتدت حياته زمناً طويلاً في الجاهلية والإسلام.

إن المتتبع لشعر المخبَّل يلحظ أن ثمة تبايناً حاداً بين شعره رجلاً في شرخ الشباب وشعره كهلاً، وشعره وهو شيخ كبير آمن بالله ودخل في الدين الجديد الذي عمَّ نوره الجزيرة كلها. فتارة نرى اندفاعة الرجال وثقتهم وما يستتبع ذلك من جنوح إلى المبالغة والغلو في الفخر والهجاء، وتارة نرى حصافة الكهول الذين لم تكن لهم قناة، وطوراً آخر نجد المخبَّل الشيخ الذي عركته الحياة فحبتَه الحكمة، وثاب إلى الرشاد، وأدرك أن الحياة غَرور بأهلها، كما نجد تقى المسلم وورعه بعد أن عمَر الإسلام قلبه بالإيمان.

وهذا التباين وذاك الاختلاف إنما تأتي له من عمره المديد الذي يدفع بنا إلى القول: إنه كان من المعمرين وإنه عاش ما يقرب من مائة وخمسة عشرة عاماً، ولعل هذا ما أخَّر أبا حاتم السجستاني عن ذكره في كتابه لأن من شرطه ألا يسلك فيه إلا من بلغ مائة وعشرين عاماً فأكثر (2).

وفي أخبار من كانت لهم صلة بالمخبل نجد ما يُستنبط منه أن الرجل قد عاش نحواً مما ذكرنا، فقد جاء في الخزانة أن الأضبط بن قريع أخا جعفر بن قريع ـ وهو أنف الناقة جد المخبل ـ عاش قبل الإسلام بخمسمائة سنة (3). وهو قول فيه شيء كبير من الغلو والمبالغة مما يجعل التحديد الذي ذكرناه غير مقبول، إذ أن النظر في سلسلة نسب المخبل ترد هذا، وتشير إلى أن بين الأضبط ـ وأخيه جعفر ـ وشاعرنا ثلاثة آباء، ومهما بالغنا في تقدير النقلة الزمنية التي تفصل بين جيل وآخر، فلن يستقيم لنا تحديد عمر المخبل استناداً إلى ما ذكرنا. ولكن ما من شك في أن الأضبط عاش مائة وعشرين عاماً على الأقل فقد ذكره أبو حاتم في المعمَّرين (4). وبفرض أن بين جيل وآخر خمسة وعشرين أو ثلاثين سنة، فإن ما قدرناه من عمر المخبل لا يبعد كثيراً عن الحقيقة.

وكذلك فإننا نجد أن أخبار الشاعر وفي شعره ما يؤكد طول عمره، فقد شهد المخبل مع قيس بن عاصم حرب ربيعة بالبحرين (5). وهي قطعاً غير حرب السعديين التي أشار إليها أبو الفرج لأن هذه كانت بعد يوم الصفقة الذي كان سنة 610 م (6).

ثم أن الرجل شهد يوم جبلة ـ فيما يبدو ـ الذي كان قبل الإسلام بأربعين سنة ونيف، وفيه كان مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) (7). كما شهد رحرحان الذي كان قبل جبلة بعام (8) فقال:

فإن تك: نالتنا كلاب بغزة

فيومك فيهم بالمضيقة أبردُ

هم قَتلوا يوم المضيقة مالكاً

وشاط بأيديهم لقيط ومعبد (9)

ومالك هذا الذي يشير إليه المخبل هو مالك بن ربعي النهشلي الذي قُتل يوم جبلة (10). فثأر به خالد بن مالك يوم ذي نجب وقتل عمرو بن الأحوص بواءً بأبيه (11).

وربما تظاهر مع هذا الخبر على توكيد ما نذهب إليه. ما ورد في شعر المخبل من افتخاره بقيامه وقومه بني سعد بنصرة أبرهة بن الصبَّاح أحد تبابعة اليمن المتأخرين الذين حكموا منذ مطلع القرن السادس الميلادي أو بعد ذلك بقليل (12). وقد تكون هذه النصرة لأبي يكسوم أبرهة الحبشي (13)، وإذا صح ما قدمناه فهذا يعني أن المخبل كان معاصراً له في منتصف القرن السادس الميلادي، وهو آنئذ فارس قوي من أسد الفزر (14)، له من العمر ما لا يقل عن خمسة وعشرين عاماً، فشارك في هذا اليوم وقال يفخر ببني سعد ونصرتهم أبا يكسوم (15):

ويوم أبي يكسوم والناس حضَّرُ

على حَلبان إذ تقضَّى محاصلُهْ

فتحنا له باب الحصير وربُّه

عزيز تمشى بالحراب أراجلُهْ(16)

بل إننا نجد في شعره ما يشير إلى ثقافة ومعرفة بأحوال الماضين وأخبارهم لا يمكن أن تكون وليدة طفرة، أو تحوُّل مفاجئ من حال إلى أخرى، وإنما لابد له من أن يكون قد أنفق زمناً طويلاً حتى يكون قد وعاها بحافظته وأدرك تفاصيلها، كما في حديثه عن الزبَّاء. وعمرو بن عدي إذ يقول:

يا أم عَمرة قد هويتُ جمَاعكم

ولكل من يهوى الجَماع فِراقُ

بل كم رأيت الدهر زايلَ بينه

من لم تُزايل بينه الأخلاق

طابت به الزَّبَّا وقد جعلت له

دُوراً ومسربة لها أنفاقُ

حملَت لها عَمراً ولا بخشونةٍ

من آل دومةَ رَسلةٌ معناقُ

حتى تفرَّعها بأبيضَ صارمٍ

عَضبٍ يلوح كأنه مِخراق (17)

فإذا ضممنا ما قدرناه له من عمر يوم أبي يكسوم الذي توفي سنة 570 م (مفترضين أن هذا اليوم لم يكن بعيداً جداً عن عام الفيل وأن أبا يكسوم المذكور هو أبرهة الحبشي) إلى ما عاشه الرجل حتى وفاته في خلافة عمر أو عثمان كان لنا أن نُقدر له من العمر عند وفاته حوالي مائة وخمسة عشر عاماً، وعليه تكون ولادته نحو سنة 528 م.

وإلى هذا فإن شاعرنا كان يتولى السفارة لقومه ولمن يفد عليه من العرب عند القبائل الأخرى سعياً في حقوقهم، ولإصلاح ذات البين، فقد ذكر الأصفهاني أن المخبل سعى بإبل لرجل كان المنتشر بن وهب الباهلي أخذها منه وهو مجاور في بني قشير (18) فقال:

إن قُشيراً من لقاح ابن حازمٍ

كراحضةٍ حيضاً وليست بطاهرِ

فلا توكلوها الباهلي وتقعدوا

لدى غرضي أرميكُمُ بالنواقرِ(19)

فلما بلغهم قول المخبل سعوا بإبله فردها عليهم حزن بن معاوية بن خفاجة بن عقيل" (20). وتذكر المصادر أن: "ناساً من العرب اجتمعوا بعكاظ، منهم قُرَّة بن هبيرة القشيري والمخبل في جوار قرة بن هبيرة القشيري في سنين تتابعت على الناس، فتواعدوا وتوافقوا أن لا يتغاوروا حتى يخصب الناس (21). ويبدو أن هذا الإجراء كان إجراء وقائياً تلجأ إليه القبائل في سنوات الأزمة، فيكون هناك نوع من المهادنة وحياة السلم برغم "أنه كانت تكون في عكاظ وقائع مرة بعد مرة" (22)، ويكفي أن نذكر أن الذي هاج يوم النَّسار الذي كان بعد يوم جبلة على الأرجح (23) هو مجاورة هوازن لسعد وضبة في ديارهم في سنة مجدية، فعدا الضبيون على إبل لبني قشير فشد عليهم بنو سعد، فما كان من ضبة إلا أن رحلت وحالفت أسداً وطيئاً وكان النسار.

أم ما يمكن الركون إليه فهو ما وجدناه في شعر المخبَّل ـ إن صحت له هذا الأبيات ـ من أنه عاش ستة وتسعون عاماً حتى سنة 14 هـ. حيث خرجت جيوش الفتح بقيادة سعد بن أبي وقاص وكان فيمن خرج معه شيبان بن المخبل فجزع عليه أبوه جزعاً شديداً فقال قصيدة منها:

وما للعظام الراجفات من البلى

دواء وما للركبتين طبيبُ

وإنّ امرأٍ عاش ستَّاً وتسعين حجة

إلى منهلٍ من وِرده لقريبُ

إذا ذهب القِرن الذي أنت فيهمُ

وخلَّفتَ في قِرنٍ فأنت غريبُ(24)

ومعنى هذا أن الرجل عاش حتى وفاته في خلافة عمر أو عثمان قرابة مائة وخمس سنوات.

وكان هذا العمر الطويل وراء امتداد الأحداث بحياة المخبل امتداداً طويلاً، دفع الشاعر إلى الإشارة إلى بعض مظاهر الضعف والكبر التي لازمته فيقول في القصيدة السابقة التي جزع فيها على ابنه شيبان:

فإن يك غصني أصبح اليوم ذاوياً

وغصنكَ من ماء الشباب رطيبُ

فإني حنَت ظهري خُطوب تتابعت

فمشيي ضعيف في الرجال دبيب (25)

وفي قصيدة أخرى يشير إلى توالي الأيام والليالي طويلة عليه حتى لاح الشيب بعارضه، فأنكرت غواسله عليه ذلك:

وإن هي لم يودِ الشباب ولم يلُح

برأسي شيبٌ أنكرته غواسله (26)

وفي موضع آخر يقول:

ولئن رأيتِ الشيب خوّص لمَّتي

من طول ليل دائبٍ ونهارِ

إني لترزَؤني النوائب في الغِنى

وأعِفُّ عند مشحَّة الإقتارِ (27)

ويغلب هذا الأمر على قسم لا يستهان به من شعره ـ أو المتبقي منه ـ فتراه يصور نفسه يدب على الأرض كالرجل المقيد، وقد شح بصره، وتولى بنوه تصريف أموره، فهو لشدة ضعفه حاضر غائب، فيقول:

ومشيت باليدِ قبل رجلي خطوها

رسَفَ المقيَّد تحت صُلبٍ أحدبِ

فإذا رأيتُ الشخص قلت: ثلاثةٌ

أو واحدٌ وأخالُه لم يقرُبِ

وقضى بني الأمر لم أشعر به

وإذا شهدتُ أكون كالمتغيِّبِ (28)

وفي قصيدة أخرى يقول:

إذا قال صحبي: يا ربيع ألا ترى

أرى الشخص كالشخصين وهو قريب (29)

ومن خلال هذا الشعر، والاحتكام إليه، نلاحظ أن مظاهر ضعفه تجلت في حرصه المفرط على ولده، وجزعه الشديد عليه، ولابد أن يكون هذا الحرص وذلك الجزع نتيجة طبيعية لكبر سنه وضعف قواه، ولأن المخبَّل لم يرزق بولد في الجاهلية (30). ولهذا كانت حاجته إلى ابنه كبيرة فلم يستطع الصبر على فقده حتى كاد أن يُغلب على عقله فعمد إلى أبله وسائر ماله ليبيعه ـ وكان به ضنيناً ـ ويلحق بابنه فمنعه ابن عمه علقمة بن هوذة من ذلك، وكلم له عمر في رد ابنه وأنشده قصيدة المخبَّل فبكى عمر "رض" ورقَّ له وكتب إلى سعد يأمره أن يرد شيبان على أبيه، فكان ذلك. ولم يزل شيبان في خدمة أبيه إلى أن مات (31). وإلى هذا العمر الطويل ألمح المخبل في غير قصيدة وموضع من شعره، فهو يرى أن صروف الدهر لا تبقى على أحد، فلم يسلم منها حتى نعمان وتُبَّعُ فقال:

أتهزأ مني أم عَمرة أن رأت

نهاراً وليلاً بلَّياني فأسرعا

فأن أكُ لاقيتُ الدهاريس منهما

فقد أفنيا النعمان قبلُ وتُبَّعا (32)

وفي قصيدة أخرى يصور كيف أن يد الدهر أخطأته فامتد به العمر ليرى ما لا يحب، وما لم يكن ليخطر له ـ أو لغيره ـ على بال من مناوأة الزبرقان له ولقومه في عزهم ومجدهم الذي ورثوه كابراً عن كابر، ورسَّخوه بمساعيهم ومآثرهم، وصانوه من كل ما يثلبه فقال:

ألم تعلمي يا أم عمرة أنني

تَخاطأني ريبُ الزمان لأكبرا

وأشهد من عوفٍ حلولاً كثيرةً

يحجُّون سِبَّ الزِّبرقانِ المزعفرا (33)

وإذا ما نظرنا في ما وقع إلينا من أخباره فإنها بمعظمها تصوره شيخاً كبيراً بلغ من العمر عتياً، إضافة إلى أنه كان قد فقد بصره أو كاد بأخرة من حياته كما يصرح في شعره، وكما نجد في خبر لقائه بخليدة أخت الزبرقان التي مر بها وكان قد "أسن وضعف بصره، فأنزلته وقرّبته وأكرمته، ووهبت له وليدة، وقالت له: إني آثرتك بها يا أبا يزيد. فاحتفظ بها، فقال: ومن أنت حتى أعرفك وأشكرك؟ قالت لا عليك. قال: بلى والله أسألك. قالت: أنت بعض من هتكت بشعرك ظالماً! أنا خليدة بنت بدر فقال: واسوأتاه منك، فإني أستغفر الله عز وجل، وأستقيلك وأعتذر إليك ثم قال:

لقد ضل حلمي في خُليدة أنني

سأعتب قومي بعدها وأتوب

فأقسمُ بالرحمن إني ظلمتُها

وجرتُ عليها والهجاءُ كذوبُ (34)

وكان المخبَّل أحب خليدة هذه فخطبها إلى أخيها، ولكنه منعه إياها، وردَّه لشيء كان في عقله ـ كما تزعم الروايات ـ وزوّجها رجلاً من بني جشم فهجاه المخبل وشبب بها ويبدو أنه ظل على حبه لها حتى زمن متأخر من حياته (35).

وتبقى مسألة عدم وجود المخبل في وفد تميم الذي قدم المدينة سنة 9 للهجرة لإعلان إسلام تميم، وتخلفه عن هذا الوفد أمراً لا يمكن تسويغه إلا بما قدمناه من تقدمه بالسن، وضعفه وشح بصره في المدة الأخيرة من حياته. ولولا هذا لكان المخبَّل في طليعة هذا الوفد، ذلك أنه كان شاعر بني سعد في زمانه ـ وسعد معظم تميم ـ فضلاً من كونه أحد وجوه القبيلة وسادتها وفرسانها، وقد عرفت له قبيلته والقبائل الأخرى هذه المكانة، وهذا الحطيئة يمدحه فيقول:

أنخنا ببيت الزبرقان وليتنا

مضينا فقِلنا وسط بيت المخبَّلِ

ظلِلنا لديه نستقي بحبالنا

بذي المتن منها والضعيف الموصَّلِ (36)

والحطيئة لم يكن ليقول هذا لولا أنه يعرف مكانة المخبل، وأنه في الصميم من قومه بني قريع الذين مدحهم بغير قصيدة، فقال:

لقد شَدَّت حبائل آل لأيٍّ

حبالي بعد ما ضعُفت قُواها

فما تتَّام جارةُ آلِ لأيٍ

ولكن يضمنون لها قِراها

كرامٌ يفضُلون قُروم سعدٍ

أولي أحسابِهم وأولي نُهاها

وهم فرعُ الذرا من ألِ سعدٍ

إذا ما عُدَّ من سعدٍ ذراها (37)

ولكن يكاد يودي بهذا التفسير الذي قدمناه ما ذكرته المصادر من أن المخبل كان في وفد بني أنف الناقة الذي ذهب لاستمالة الحطيئة، وحضه على ترك جوار الزبرقان ابن عمهم وهجائه، وكان هذا في سنة مجدبة من بداية خلافة عم كما تذكر المصادر (38). وربما كان هذا العام هو الذي عرف بعام الرمادة الذي كان سنة 18 للهجرة (39).

ومعنى هذا إن المخبل كان آنئذ قادراً على السفر والتنقل بما يجعلنا نقف مترددين، وفي حيرة من أمرنا إزاء ما قدمنا من تعليل لعدم وفادته على الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن هذا التردد وتلك الحيرة يمكن دفعهما وتبديدهما بأن اشتراك شاعرنا في وفد الأنفيين. إلى الحطيئة لم يكن ليؤدي بحالة من الأحوال إلى إجهاد الشيخ، بل ربما هيأ له قومه ما يعين على هذه الرحلة التي مهما قيل فيها فإنها تبقى في إطار مضارب بني سعد وديارهم. في حين يحتاج المسافر أياماً للوصول إلى المدينة مع ما في ذلك من مشقة وعناء.

وهكذا نرى أنه ليس من المبالغة القول: إن الرجل قد ناهز المائة بل تجاوزها عند وفاته سنة 20 للهجرة أو بعد ذلك بقليل كما سنرى في الحديث عن وفاته. وإذا صح ما ذكرناه فإن ما قدرناه من أنه ولد نحو سنة 528 م ليس ببعيد عن الواقع.

أما ما يتصل بنشأة المخبل وشبابه فليس بين أيدينا ما يسعف لرسم صورة لهذين الطورين من أطوار حياته، إذ أن شعره ينمُّ في معظمه عن رجل صلب العزيمة، لا يعرف التردد سبيلاً إلى قلبه، ويأبى الظلم لنفسه وللآخرين فيقول:

وقالوا أخانا لا تَضعَضَع لظالمٍ

عزيز ولا ذا حقِّ قومك تظلمِ

رأوا أنني لاحقَّهم أنا ظالمٌ

ولا ناصري إن جاوز الحقَّ مُسلمي

وأنا أناس تعرف الخيل زجرنا

إذا مطرت سُحب الصوارم بالدمِ

وأنَّا لنعطي النَّصف من لو نَضيمُه

أقرَّ ونأبى نخوة المتظلم (40)

وتلوح في هذا الشعر أيضاً، صورة الفارس الذي يسقي الكماة من دمائها، دفاعاً عن الحقيقية، وحماية لها حتى أصبحت نساؤه مضرب المثل في المنعة، فقد قال هشام بن عبد الملك لجرير معلقاً على أبيات له: "لم تركت نساءك أُردِفنَ؟ ألا جعلتهن كنسوة المخبَّلِ، فما سمعنا بعربيات قط أمنع منهن، حيث يقول:

وساقطة كورِ الخمارِ حييَّةٍ

على ظهر عُريٍ زلَّ عنها جِلالُها

تشدُّ بأيديها السنام وقد رأت

مسوّمة يأوي إليها رعالها

نزلنا فساقينا الكُماة دماءها

سجال المنايا حيثُ تُسقى سجالها (40)

وإلى هذا تشير المصادر إلى أنه كان يجتمع بشعراء القبيلة كعمرو بن الأهتم، وعَبَدة ابن الطبيب والزبرقان، وعلقمة الفحل، وأنهم احتكموا مرة إلى ربيعة بن حذار الأسدي حكم العرب فحكم للمخبل بالتفوق وبأن شعره "شهبٌ من نار يلقيها الله على من يشاء من عباده" (42). وقيل أن الذي حكم بينهم هو عَبَدة بن الطبيب فقال له: "فأما أنت يا مخبل فإن شعرك العِلاطُ والعراضُ" (43).

ومهما يكن الحكم الذي صدر على شعر المخبل فإن الذي يهمنا هنا هو اجتماعه بعلقمة ابن عبده مما يعني أنه كان معاصراً له، وعلقمة هذا توفي حوالي سنة 603 م (44) .

أما المخبل الكهل فنراه يصدف عن متاع الدنيا الغرور بأهلها. ويرى أن خلود المرء إنما يكون باتباعه سواء السبيل والبعد عن الآثام، والتزام التقوى، ذلك أن المنايا رصدٌ لكل مخلوق، فهي تنقب عنه وتأتيه إينما كان، فيقول:

وتقول عاذلتي وليس لها

بغدٍ ولا ما بعده علمُ

إن الثراء هو الخلود وإن

المرء يُكرِبُ يومه العُدمُ

إني وجدِّكِ ما تخلِّدني

مئةٌ يطير عِفاؤها أدْمُ

لتنقبنْ عني المنية أن

الله ليس كعلمه علمُ

إني وجدت الأمر أرشُدهُ

تقوى الإلهِ وشرُّه الإثم (45)

وعلى ما في هذه الأبيات من معان إسلامية، فأغلب الظن أن هذه القصيدة، قد قيلت قبل الإسلام، ولهذا النمط من الشعر الذي تتردد فيه المعاني الإسلامية أمثلة كثيرة نراها عند شعراء الجاهلية، كالنابغة الذبياني (46) وعبيد بن الأبرص (47) وسلامة بن جندل (48) وأمية بن أبي الصلت (49) وزهير بن أبي سلمى (50 ) وأوس بن حجر (51). وغيرهم (52) إذ أن العرب لم يكونوا بعيدين بتفكيرهم عن هذه الأمور وهو ما هيأهم لتلقي الدين الجديد، ونزوله بين ظهرانيهم.

وإلى هذا فإننا نجد في شعره حكمة الشيوخ الذين عركتهم الحياة، وعجمت عودهم، فوجدت معجمهم صليباً. يظهر ذلك من الحكم المبثوثة في شعره، فيقول:

إذا أنت عاديت الرجال فلاقهم

وعرضك من غثِّ الأمور سليمُ

وإنّ مقاديرَ الحمامِ إلى الفتى

لسوَّاقةٌ ما لا يخافُ هَمومُ

وقد يسبقُ الجهلُ النُّهى ثم إنها

تريعُ لأصحابِ العقولِ حُلُومُ (53)

ومن هذا قوله أيضاً

وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى

ولكن أحاظٍ قسِّمت وجُدودُ

وما يكسب المرء الغنى بجِلادهِ

لديه ولكن خائبٌ وسعيدُ

إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً

فمطلبها كهلاً عليه شديدُ (54)

وهكذا فإن صورة المخبل في أطوار حياته تكاد تكتمل لولا شح الأخبار المتصلة بطوري النشأة والشباب، وضياع قسم كبير من شعر المخبل كان يمكن أن يسهم في إتمام صورة واضحة للشاعر، تعين على تفسير بعض جوانب شخصيته وخاصة في طور التشكل، لنرى ما الذي دفعه إلى أن ينتهج سبيل الهجاء في شعره حتى كان أهجى العرب (55).

© 2024 - موقع الشعر