قوتنا في وحدتنا واتحادنا - أحمد علي سليمان

قالت الابنة الأولى مفتتحة القصيدة
نموتُ ، ويبقى إلهُ الورى

وندفنُ - بالرغم - تحت الثرى
فسبحانَ مَن بالفنا خصّنا

وخصّ البرايا ، وخصّ القرى
إلى جنة الخلد يا والدي

فكم عشت في ذي الدنا خيّرا
عهدناك تحنو على أهلنا

وتحيا - بدينك - مستبصرا
تُقيم الصلاة على وقتها

وفي الليل تطرحُ عنك الكَرى
وتُؤتي الزكاة على وجهها

وتُصبحُ - بالدمع - مستغفرا
وتأمرُ - بالعُرف - دون حيا

وتستهجنُ السوءَ والمُنكرا
فرحمة ربي ورضوانه

عليك ، وأسألُ أن تؤجرا
وقالت الابنة الثانية مستدركة على الأولى

أراكِ أطلتِ البُكا والرثا
وقلبُك أوشك أن يُكسرا

فهل يُرجعُ الدمعُ مَن قد ثوى
وفارقَ - بالموت - كل الورى؟

وخلّفنا بعده نكتوي
ببلوى نعودُ بها القهقرى

دعينا من الوَجْد يُزوي الصِبا
وإنّ - على المرء - أن يصبرا

وعينك فرط الأسى شجّها
وكادت - مِن الحزن - أنْ لا ترى

ولستُ ألومُكِ ، يا غا دتي
ولكنْ أعزيك فيما جرى

فكُفي التوجّع ، واستبسلي
وآنَ لحزنك أن يُسترا

هلمّي نقسّم مِيراثنا
ونجعلُ إخلاصنا مَظهرا

وقالت الابنة الثالثة داعية إلى الفرقة والشتات
أنا سأبيعُ الذي خصّني

لأفضل سِعر به يُشترى
وما قيمة الأرض إن أقفرتْ؟

وأرضُ أبي واحة تُزدرى
هبيني طمحتُ لإعمارها

فأنى لهاتيك أن تُثمرا؟
ولكنْ إذا بعت حلّ الغنى

خصوصاً إذا بعتها قيصرا
فيبني عليها الذي يشتهي

وإن باع - فيما بنى - المُسْكرا
وإن شاد مَلهى يتيه به

ومارس روّاده المَيسرا
سآخذ مالي ، وأهنا به

ولن أستجيب لمَن حذرا
فخلي سبيلي ، ولا تعجبي

ورأيي الجديرُ بأن يُذكرا
وقالت الابنة الرابعة ناصحة للجميع

وأما أنا فاستمعن إلى
كلامي الذي لفظه في الذرى

يُوحّدُ كل الجهود إلى
مَساع غدا دربُها نيّرا

تهدّئُ هُوجَ الرياح التي
تُعرقلُ تحناننا المُسفرا

وتنفي الخلافَ الذي نارُه
تهدّدُ بالصعق أسْد الشرى

وتحرقُ يابس ما نجتني
وتحرقُ من بعده الأخضرا

وأسألُ كيف نبيعُ الذي
ورثنا؟ ونأملُ أن نُنصرا

سنبني معاً كي نعيش معاً
وتُصبحَ أرباحُنا أوفرا

ونطردَ مِن بيننا فِتنة
تُجرّعنا كيدَها الأغبرا

وقالت الابنة الخامسة مثنية ومادحة
صدقتِ أخية في رؤيةٍ

أبوكِ بها طالما بشّرا
رأى (الاتحاد) لنا رحمة

تُعيدُ الإخاءَ الذي أدبرا
وتنزعُ عنا خِلافاتنا

وتُظهر إعزازنا المُضمَرا
ألا إنها حِكمة برّة

وليست حديثاً هنا يُفترى
إذا ما اتحدْنا قهرْنا العِدا

ونُضحِي على دَحْرهم أقدرا
وربُ الأنام يُباهي بنا

ونصبحُ - بين الورى - أوقرا
هداكُن ربي لدرب الهُدى

لتُمسِين - مما جرى- أكبرا
وبارك في (وَحدةٍ) عَفةٍ

أراها مِثالاً لكل الورى

مناسبة القصيدة

(مات ذلك الوالد عن عمر جاوز الستين بقليل بعد صراع مرير مع المرض. وبكَته بُنياته الخمس بكاءً طويلاً. ثم نزغ الشيطان بينهن بشأن تقسيم الميراث الذي تركه الوالد. وتجاذبن أطراف الحديث. وفي النهاية اجتمعن على فكرة جميلة ارتأتها الابنة الصغرى. وحققتْ بذلك الوحدة والاتحاد بينهن. وأردت الخلاف والفرقة والاختلاف. قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) ، وقال: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). أي: ولا تكونوا من المشركين وأهل الأهواء والبدع الذين بدَّلوا دينهم ، وغيَّروه ، فأخذوا بعضه ، وتركوا بعضه ؛ تبعًا لأهوائهم ، فصاروا فرقًاً وأحزابًا ، يتشيعون لرؤسائهم وأحزابهم وآرائهم. وقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). والمعنى: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأهل الكتاب الذين وقعت بينهم العداوة والبغضاء فتفرَّقوا شيعًا وأحزابًا ، واختلفوا في أصول دينهم من بعد أن اتضح لهم الحق ، وأولئك مستحقون لعذابٍ عظيم موجع. وقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ، وقال: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا ؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ؛ قِيـلَ وَقَـالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ». رواه مسلم. فتخيلتُ الحوار الذي دار بين البُنيّات الخمس كان على هذا النحو وصغته شعراً ، فأنشدتُ على ألسنتهن هذه القصيدة الشعرية التي أخذت شكل المسرحية الشعرية ذات الفصل الواحد. وجعلت الأبيات ثمانية من البحر المتقارب.)
© 2024 - موقع الشعر