يالِـيَّ بَعـدَ الظاعِنـيـنَ شُـكـولُ - أبو الطيب المتنبي

يالِيَّ بَعدَ الظاعِنينَ شُكولُ "
" طِوالٌ وَلَيلُ العاشِقينَ طَويلُ

يُبِنَّ لِيَ البَدرَ الَّذي لا أُريدُهُ "
" وَيُخفينَ بَدرًا ما إِلَيهِ سَبيلُ

وَما عِشتُ مِن بَعدِ الأَحِبَّةِ سَلوَةً "
" وَلَكِنَّني لِلنائِباتِ حَمولُ

وَإِنَّ رَحيلاً واحِدًا حالَ بَينَنا "
" وَفي المَوتِ مِن بَعدِ الرَحيلِ رَحيلُ

إِذا كانَ شَمُّ الروحِ أَدنى إِلَيكُمُ "
" فَلا بَرِحَتني رَوضَةٌ وَقَبولُ

وَما شَرَقي بِالماءِ إِلّا تَذَكُّرًا "
" لِماءٍ بِهِ أَهلُ الحَبيبِ نُزولُ

يُحَرِّمُهُ لَمعُ الأَسِنَّةِ فَوقَهُ "
" فَلَيسَ لِظَمآنٍ إِلَيهِ وُصولُ

أَما في النُجومِ السائِراتِ وَغَيرِها "
" لِعَيني عَلى ضَوءِ الصَباحِ دَليلُ

أَلَم يَرَ هَذا اللَيلُ عَينَيكِ رُؤيَتي "
" فَتَظهَرَ فيهِ رِقَّةٌ وَنُحولُ

لَقيتُ بِدَربِ القُلَّةِ الفَجرُ لَقيَةً "
" شَفَت كَمَدي وَاللَيلُ فيهِ قَتيلُ

وَيَومًا كَأَنَّ الحَسنَ فيهِ عَلامَةٌ "
" بَعَثتِ بِها وَالشَمسُ مِنكِ رَسولُ

وَما قَبلَ سَيفِ الدَولَةِ اِثّارَ عاشِقٌ "
" وَلا طُلِبَت عِندَ الظَلامِ ذُحولُ

وَلَكِنَّهُ يَأتي بِكُلِّ غَريبَةٍ "
" تَروقُ عَلى اِستِغرابِها وَتَهولُ

رَمى الدَربَ بِالجُردِ الجِيادِ إِلى العِدا "
" وَما عَلِموا أَنَّ السِهامَ خُيولُ

شَوائِلَ تَشوالَ العَقارِبِ بِالقَنا "
" لَها مَرَحٌ مِن تَحتِهِ وَصَهيلُ

وَما هِيَ إِلاّ خَطرَةٌ عَرَضَتْ لَهُ "
" بِحَرّانَ لَبَّتها قَنًا وَنُصولُ

هُمامٌ إِذا ما هَمَّ أَمضى هُمومَهُ "
" بِأَرعَنَ وَطءُ المَوتِ فيهِ ثَقيلُ

وَخَيلٍ بَراها الرَكضُ في كُلِّ بَلدَةٍ "
" إِذا عَرَّسَت فيها فَلَيسَ تَقيلُ

فَلَمّا تَجَلّى مِن دَلوكٍ وَصَنجَةٍ "
" عَلَت كُلَّ طَودٍ رايَةٌ وَرَعيلُ

عَلى طُرُقٍ فيها عَلى الطُرقِ رِفعَةٌ "
" وَفي ذِكرِها عِندَ الأَنيسِ خُمولُ

فَما شَعَروا حَتّى رَأَوها مُغيرَةً "
" قِباحًا وَأَمّا خَلفُها فَجَميلُ

سَحائِبُ يُمطِرنَ الحَديدَ عَلَيهِمُ "
" فَكُلُّ مَكانٍ بِالسُيوفِ غَسيلُ

وَأَمسى السَبايا يَنتَحِبنَ بِعَرْقَةٍ "
" كَأَنَّ جُيوبَ الثاكِلاتِ ذُيولُ

وَعادَت فَظَنّوها بِمَوزارَ قُفَّلاً "
" وَلَيسَ لَها إِلّا الدُخولَ قُفولُ

فَخاضَت نَجيعَ الجَمعِ خَوضًا كَأَنَّهُ "
" بِكُلِّ نَجيعٍ لَم تَخُضهُ كَفيلُ

تُسايِرُها النيرانُ في كُلِّ مَسلَكٍ "
" بِهِ القَومُ صَرعى وَالدِيارُ طُلولُ

وَكَرَّت فَمَرَّت في دِماءِ مَلَطْيَةٍ "
" مَلَطْيَةُ أُمٌّ لِلبَنينِ ثَكولُ

وَأَضعَفنَ ما كُلِّفنَهُ مِن قُباقِبٍ "
" فَأَضحى كَأَنَّ الماءَ فيهِ عَليلُ

وَرُعنَ بِنا قَلبَ الفُراتِ كَأَنَّما "
" تَخِرُّ عَلَيهِ بِالرِجالِ سُيولُ

يُطارِدُ فيهِ مَوجَهُ كُلُّ سابِحٍ "
" سَواءٌ عَلَيهِ غَمرَةٌ وَمَسيلُ

تَراهُ كَأَنَّ الماءَ مَرَّ بِجِسمِهِ "
" وَأَقبَلَ رَأسٌ وَحدَهُ وَتَليلُ

وَفي بَطنِ هِنزيطٍ وَسِمنينَ لِلظُبا "
" وَصُمَّ القَنا مِمَّن أَبَدنَ بَديلُ

طَلَعنَ عَلَيهِم طَلعَةً يَعرِفونَها "
" لَها غُرَرٌ ما تَنقَضي وَحُجولُ

تَمَلُّ الحُصونُ الشُمُّ طولَ نِزالِنا "
" فَتُلقي إِلَينا أَهلَها وَتَزولُ

وَبِتنَ بِحِصنِ الرانِ رَزحى مِنَ الوَجى "
" وَكُلُّ عَزيزٍ لِلأَميرِ ذَليلُ

وَفي كُلِّ نَفسٍ ما خَلاهُ مَلالَةٌ "
" وَفي كُلِّ سَيفٍ ما خَلاهُ فُلولُ

وَدونَ سُمَيساطَ المَطاميرُ وَالمَلا "
" وَأَودِيَةٌ مَجهولَةٌ وَهُجولُ

لَبِسنَ الدُجى فيها إِلى أَرضِ مَرعَشٍ "
" وَلِلرومِ خَطبٌ في البِلادِ جَليلُ

فَلَمّا رَأَوهُ وَحدَهُ قَبلَ جَيشِهِ "
" دَرَوا أَنَّ كُلَّ العالَمينَ فُضولُ

وَأَنَّ رِماحَ الخَطِّ عَنهُ قَصيرَةٌ "
" وَأَنَّ حَديدَ الهِندِ عَنهُ كَليلُ

فَأَورَدَهُمْ صَدرَ الحِصانِ وَسَيفَهُ "
" فَتًى بَأسُهُ مِثلُ العَطاءِ جَزيلُ

جَوادٌ عَلى العِلّاتِ بِالمالِ كُلِّهِ "
" وَلَكِنَّهُ بِالدارِعينَ بَخيلُ

فَوَدَّعَ قَتلاهُمْ وَشَيَّعَ فَلَّهُمْ "
" بِضَربٍ حُزونُ البَيضِ فيهِ سُهولُ

عَلى قَلبِ قُسطَنطينَ مِنهُ تَعَجُّبٌ "
" وَإِن كانَ في ساقَيهِ مِنهُ كُبولُ

لَعَلَّكَ يَومًا يا دُمُستُقُ عائِدٌ "
" فَكَم هارِبٍ مِمّا إِلَيهِ يَؤولُ

نَجَوتَ بِإِحدى مُهجَتَيكَ جَريحَةً "
" وَخَلَّفتَ إِحدى مُهجَتَيكَ تَسيلُ

أَتُسلِمُ لِلخَطِّيَّةِ اِبنَكَ هارِبًا "
" وَيَسكُنَ في الدُنيا إِلَيكَ خَليلُ

بِوَجهِكَ ما أَنساكَهُ مِن مُرِشَّةٍ "
" نَصيرُكَ مِنها رَنَّةٌ وَعَويلُ

أَغَرَّكُمُ طولُ الجُيوشِ وَعَرضُها "
" عَلِيٌّ شَروبٌ لِلجُيوشِ أَكولُ

إِذا لَم تَكُن لِلَّيثِ إِلاّ فَريسَةً "
" غَذاهُ وَلَم يَنفَعكَ أَنَّكَ فيلُ

إِذا الطَعنُ لَم تُدخِلكَ فيهِ شَجاعَةٌ "
" هِيَ الطَعنُ لَم يُدخِلكَ فيهِ عَذولُ

فَإِن تَكُنِ الأَيّامُ أَبصَرنَ صَولَةً "
" فَقَد عَلَّمَ الأَيّامَ كَيفَ تَصولُ

فَدَتكَ مُلوكٌ لَم تُسَمَّ مَواضِيًا "
" فَإِنَّكَ ماضي الشَفرَتَينِ صَقيلُ

إِذا كانَ بَعضُ الناسِ سَيفًا لِدَولَةٍ "
" فَفي الناسِ بوقاتٌ لَها وَطُبولُ

أَنا السابِقُ الهادي إِلى ما أَقولُهُ "
" إِذِ القَولُ قَبلَ القائِلينَ مَقولُ

وَما لِكَلامِ الناسِ فيما يُريبُني "
" أُصولٌ وَلا لِلْقائِليهِ أُصولُ

أُعادي عَلى ما يوجِبُ الحُبَّ لِلفَتى "
" وَأَهدَأُ وَالأَفكارُ فيَّ تَجولُ

سِوى وَجَعِ الحُسّادِ داوٍ فَإِنَّهُ "
" إِذا حَلَّ في قَلبٍ فَلَيسَ يَحولُ

وَلا تَطمَعَنْ مِن حاسِدٍ في مَوَدَّةٍ "
" وَإِن كُنتَ تُبديها لَهُ وَتُنيلُ

وَإِنّا لَنَلقى الحادِثاتِ بِأَنفُسٍ "
" كَثيرُ الرَزايا عِندَهُنَّ قَليلُ

يَهونُ عَلَينا أَن تُصابَ جُسومُنا "
" وَتَسلَمَ أَعراضٌ لَنا وَعُقولُ

فَتيهًا وَفَخرًا تَغلِبَ اِبنَةَ وائِلٍ "
" فَأَنتِ لِخَيرِ الفاخِرينَ قَبيلُ

يَغُمُّ عَلِيًّا أَن يَموتَ عَدُوُّهُ "
" إِذا لَم تَغُلهُ بِالأَسِنَّةِ غُولُ

شَريكُ المَنايا وَالنُفوسُ غَنيمَةٌ "
" فَكُلُّ مَماتٍ لَم يُمِتهُ غُلولُ

فَإِن تَكُنِ الدَّوْلاتُ قِسمًا فَإِنَّها "
" لِمَن وَرَدَ المَوتَ الزُؤامَ تَدولُ

لِمَن هَوَّنَ الدُنيا عَلى النَفسِ ساعَةً "
" وَلِلبيضِ في هامِ الكُماةِ صَليلُ

© 2024 - موقع الشعر