نعم.. أدعياء العلم أشد خطراً!!

للكتاب: موقع الشعر،


بحت أقلامنا وجفَّ حبرها منذ أن دكَّ الإرهاب قلاع الأمان في وطننا الغالي ونحن نؤكّد ونشدّد على أن الإرهاب فكر قبل أن يكون سلوكاً، وأن الإرهابيين لم يهبطوا علينا من السماء، وأنهم حصاد لفكر أمعن إيغالاً في عقول شبابنا، وأن الطريق إلى تجفيف منابع الإرهاب لا بد أن يبدأ أولاً بالذهاب إلى أصل البذرة واستئصالها من مكمنها في جذور البنية الفكرية. فاجتثاث الفكر التكفيري القائم على النظرة الأحادية والقناعة الكاملة بامتلاك الحقيقة المطلقة يبدأ أولاً بإيضاح معالم هذا الفكر، وتفكيك خطابه، وإيضاح خلل أدبياته، وتهالك مفرداته، وتتبع مسار هذا الفكر إلى حيث منابعه وجذوره. ودراسة الطرق التي تعاد فيها برمجة العقول وغسلها وزرع جراثيم الكراهية ورفض الاختلاف فيها، لتتحول الأجيال التي يفترض أن يتبرعم على أيديها مستقبل الأوطان إلى قنابل موقوتة وأحزمة ناسفة تنتظر اللحظة التي تتفجر فيها وتحرق كل ما تعتقد أنه يخالف قناعتها أو ما لا يتوافق مع رؤاها ونظرتها للأمور!

ألقى الفكر التكفيري بظلاله على المجتمع السعودي من أواخر السبعينات وانطلقت مسميات تهاجم بعض الممارسات الاجتماعية وتصمها بالضلال والفساد، كما طرقت آذاننا اتهامات تقول بجاهلية المجتمع وعدم التزام الناس بتعاليم الإسلام، ثم انطلق ذلك الفكر يتشعب ويتعوشب في البنية الاجتماعية حتى آل الحال إلى ما هو عليه الآن. فأصبح في كل مدينة من مدننا أوكار للإرهاب ومخابئ للأسلحة وشباب ينقادون من غير بصيرة أو تعقّل وراء خطاب حماسي تعبوي يستنهض همهم ويستنفر مشاعرهم ويشعل جذوة عواطفهم الدينية ويحولهم إلى سهام تمزّق أوطانها وأهلها وذويها وجيرانها.

والمتأمل في حال مجتمعنا السعودي والمتابع لتطوراته وحراكه الاجتماعي لا بد أن يلاحظ انحسار التسامح وسيادة التشدد في كافة المناطق والأقاليم من مملكتنا المترامية الأطراف! فالممارسات البريئة صارت تدخل في خانة الحرام والمحرمات، وتسلّل التوجس والشك ليسوّد صفحة سلوكيات وممارسات كان آباؤنا وأجدادنا يؤدونها بعفوية وتلقائية وفهم عميق لجوهر الدين ومقاصد الشريعة. وأصبح الناس يبحثون عن فتوى ترشدهم حتى في الأمور التي يفترض أنها بديهيات ومسلّمات لا تحتاج إلى وجهة نظر دينية فيها. مع غياب كامل للعقلية النقدية القادرة على تفكيك رأي المدعين.

وفي تقديري أن جرثومة الإرهاب والفكر التكفيري بدأ تكونها في مجتمعنا منذ أن انتشر التشدّد والغلو والتنطّع الذي قاد بدوره إلى التطرف. فالمتشدد في صغائر الأمور يشعر بالتميّز والتعالي على بقية الناس الذين لا يلبثوا أن يصنفوا في خانة الخطيئة والمخطئين. فذلك الإحساس بالتميّز وامتلاك زمام الحقيقة وجاهزية إطلاق الأحكام على الناس هو بداية انزلاق القدم في هاوية التطرف الذي قد ينحدر بصاحبه فيوصله إلى استسهال اجتثاث أرواح البشر ما داموا لا ينفذون ولا يلتزمون يما يرى هو أنه حق وصواب.

شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين تنشيطاً للتدين الشعائري ليس فقط في مملكتنا السعودية ولكن في العالم الإسلامي بأسره. صاحب هذا التنشيط للتدين الشعائري شبه إهمال وتجاهل للتدين الدنيوي، الذي يندرج تحته أدب التعامل وحسن الخلق، والتسامح مع الآخر والانفتاح عليه، وبذل الجهد في العمل ومحاولة إتقانه وربط العلم بالعمل، واحترام العمل، وإعمال العقل بدلاً من النقل. فازداد عدد المتطرفين والمتشدّدين، الذين ينتشون بذلك الإحساس بالامتياز والتفوق على سائر خلق الله فيشعرون أنهم بمجرد أدائهم للشعائر وتشدّدهم في صغائر الأمور يضمن لهم الحظوة عند خالقهم ويمنحهم الأفضلية على غيرهم، وأن هذا التشدّد يعطيهم الأحقية والأهلية للحكم على قلوب البشر وادعاء معرفة دواخلهم و نواياهم.

واختفى مبدأ التسامح مع الضعف البشري ومع التعددية والاختلاف، وصارت صورة الإنسان قاتمة وترتبط بكراهية الدنيا ومحاربة جميع أنواع المتع البريئة، وانقسم الشباب إلى قسمين يسيران في اتجاهين متعاكسين، فإما متدين متشدّد كاره للدنيا وناقم عليها وعلى كل محب لها، وقد يقوده هذا التدين إلى التطرف ثم لا يلبث أن ينجرف إلى مهاوي الإرهاب! أو منفلت ومنسلخ عن أي رابط يربطه بدينه أو هويته، وصار التوسط والاعتدال أمراً نادراً ووضعاً استثنائياً.

التركيز على جوهر الدين وقيمه التي تدعو إلى التسامح وتقبل الاختلاف والتعددية، وتعزيز نزعة الأنسنة الموجودة في ديننا العظيم عبر المنابر التعليمية والثقافية والدينية والإعلامية المختلفة هو بداية الطريق لاقتلاع الإرهاب من جذوره. وتأتي دعوة الأمير نايف وزير الداخلية لمواجهة الفكر الإرهابي بعمل فكري يتفوق على الفكر الشاذ لتضع يدها على الحل الناجع للقضاء على هذه الكارثة، وذلك بالذهاب إلى محضنها الرئيس في الفكر ومحاربتها بذات السلاح الذي كوّنها وأنشأها. كما تأتي دعوة مجلس الوزراء في جلسته التي عقدت الاثنين قبل الماضي للجهات ذات الصلة بالشأن الإعلامي والثقافي لبذل المزيد من الجهد لمواجهة ظاهرة الإرهاب في جذورها الفكرية داعمة لهذا التوجه الذي سيقودنا إلى اجتثاث الفكر المفرخ للإرهاب. نعم أدعياء العلم كما يقول الأمير نايف أخطر ممن ينفذون العمليات القتالية، فهم الذين يشرعنون قتل النفس البشرية ويحرضون على وأد المختلف ويساهمون في نشر هذا الوباء

الذي حشر الإسلام والمسلمين في زمرة الإرهاب والإرهابيين، وهم لا يزالون موجودين بيننا يتسلّلون إلى فكر شبابنا ويمعنون فيه إفساداً وتلويثاً!

أمل زاهد

© 2024 - موقع الشعر