البَحرُ مُتَّسَعٌ لأوجاعِ القَوَارِبْ - محمد عبدالرحمن شحاتة

تنُّورةٌ بيضاءُ
وردٌ..دمعةٌ
ويدانِ تمتدانِ نحوَ النَّهرِ
تَرتشفانِ مِن عسلِ المغيبْ
وهناكَ يعترفُ القصيدُ
بأنَّ عينيكِ ابتهالاتُ الحروفِ
شِفاءُ أوجاعِ الغَريبْ
عامانِ مِنْ هذا الغيابِ
فكيفَ لي ألّا أعودَ وبيتُكِ البحرُ الرَّحيبْ
**
بيدي وظِلُّ يديكِ يرقصُ في ارتعاشٍ
لا المساءُ هو المساءُ
ونلتقي في كل عامٍ مرَّةً
ولَنا بمِلحِ الدَّمعِ شَهدٌ
نكهةُ التُّفاحِ في خدَّيكِ
تعرِفُني وأعرِفها
وأمضي
لي بقلبِ حَبيبتي خُبزٌ وَ زَيتْ
نتصفَّحُ الصُّورَ القديمةَ
كلُّ شيءٍ باهتٌ
الوجهُ..والكفَّانِ
صمتُكِ..صَمتُنا
و دَمي المُجمَّدُ في الخلايا باهِتٌ
و النَّاسُ طوفانٌ مِنَ التِّرحالِ
لستُ بمفردي
و الليلُ يَسكُنُ كلَّ بيتْ
**
بالكوبِ نصفٌ فارغٌ
مَنفًى
و أحلامُ القُرنفلِ
لا تزالُ بريئةً
بِكرًا
ويرتشفُ الصِّغارُ مِنَ السَّواقي
نلعبُ ال "حجلى"
ولا نرتاحُ
نقفِزُ مِن هُنا لِهُناكَ
نضحَكُ
حينَ تَرمي البنتُ عَن قصدٍ ضَفيرَةْ
نحنُ العفاريتُ الصغيرةُ
لا ننامُ معَ الظَّهيرَةْ
**
مَطَرٌ
و "طرقعةُ" الحذاءِ على الرَّصيفِ غريبةٌ
والليلُ أضيقُ مِن عباءاتِ الطفولةِ
لا تقولي: يا بُنَيَّ..أنا كَبرتُ
ولا أريدُ أصابعَ الحَلوى..كَبرتُ
ولا أريدُ النَّومَ مِثلَ دجاجةٍ قَبلَ العِشاءْ
الوقتُ أثقلُ مِن سَحابٍ عابِرٍ
يا ساعةُ انطَلِقي ولا تَقِفي
سَيمْضي الدَّرسُ
ثُمَّ سَنشتَري "غزلَ البَناتِ"
ونَشربُ ال "بُوظا"
ونُلقي بالكراريسِ العقيمةِ
كي نعودَ لبيتِنا متأخرينَ مَعَ المَساءْ
**
الجسرُ مُمتَدٌّ
سَنذهبُ حيثُ يغلِبُنا النُّعَاسُ
سَأستعيرُ قميصيَ المنسيَّ مِنْ رَفِّ الغيابِ
ونلتقي في ظلِّ سُنبلتينِ
عُمري تسعةٌ
و يَدي مُحنَّطَةٌ على البَابِ القَديمِ
تشقُّ دربًا للنَّهارْ
فأنا أحبُّ البيتَ..والجيرانَ
شارِعَنا الصغيرَ..أحبُّ رائِحةَ الجِدارْ
وأحبُّ نهرَ النِّيلِ..وجهَكِ
والمراجيحَ القديمةَ
وِجنتَيكِ
أحبُّ صافِرةَ القِطارْ
**
للشاطئِ المنسيِّ أيضًا قِصَّةٌ
آثارُ أقدامي
على الرملِ المُبلَّلِ لا تزالُ هناكَ
و البنتُ الشَّقيةُ
صوتُ بائعةِ الزِّهورِ
و نحنُ مُتَّكئونَ
يحجِبُنا سِتارُ الفَجرِ عَن ضوءِ المَغارِبْ
نَحكي..
ونُلقي حَزنَنا للموجِ
نَمضُغُ عَلكةَ الماضي
و يرسو قاربٌ في البحرِ
يَنفضُ جُرحَهُ
والبحرُ مُتَّسَعٌ لأوجاعِ القواربْ
**
وَحدي وليسَ مَعي سوى اسمِكِ
نَفتحُ الشُّباكَ
تَرشُقُنا العصافيرُ ابتسامًا
والحياةُ فقيرةٌ
والقلبُ أعمقُ مِن مُحيطٍ صارخٍ
والدَّمعُ يَنزلُ مِنْ حَديدْ
لَم أعشقِ المَوتى ولا السِّكينَ
أعشقُ زهرةَ التُّوليبِ..و الفَانوسَ
و اسمَ مَدينتي
و العيدَ و الثَّوبَ الجَديدْ
لَم أقتَرِبْ
فأنا بعيدٌ هكذا
و النَّجمُ يلمعُ مِن بَعيدْ
**
لَسنا كَما جِئنا
تَقولُ الأمنياتُ بإنَّ شيئًا ما
سيحمِلُني إلى بابِ القَصيدةْ
وتقولُ "ضارِبَةُ الرِّمالِ":
كأنَّ عُمرَكَ طَلقةٌ
سَتُصيبُ قافيةً بَعيدَةْ
والآنَ تَحمِلُني كَطفلٍ نائِمٍ
بيَدٍ معذَّبةٍ شَريدَةْ
والعُمرُ أسرعُ مِن تَصَفُّحِنا جَريدَةْ
**
كُنَّا صغارًا لا نجيدُ قراءةَ الدُّنيا
نُعبِّرُ عَن فُصولِ الخَوفِ بالألوانِ
نصطادُ الفَرَاشَ
و كُلَّما مرَّتْ جموعُ العابرينَ تثاقَلَتْ أقدامُنا
ومَحَوتُ مِن كفَّيكِ آثارَ الجِراحْ
لَمْ نَدرِ أنَّ الشَّارعَ ازدادَ ازدحامًا صاخِبًا
كُنَّا نقولُ:
بإنَّ ضوءَ الصُّبحِ
سوفَ يَمُرُّ مِن عُنقِ الزُّجاجةِ للبَراحْ
لَم نَنتَبِهْ
حينَ التَقينا
في مَمَرَّاتِ الشَّتاتِ
كَما يمرُّ البَدرُ في جوفِ الصَّباحْ
**
العَنكبوتُ
يُحاصِرُ البِروازَ
كُنْ مُتأكِّدًا
أنَّ الجَمادَ
يَحُسُّ بالزَّمَنِ المُعَتَّقِ في المَلامحِ
لن تُعيدَ الكَرَّةَ الأولى
وتَرحلَ كُلَّما جاءَ الخَريفْ
تَتَنهدُ المِرآةُ
والقلبُ المُفَخَّخُ بالحنينِ إلى بلادي
يَنقضي باسمِ الرَّغيفْ
و أنا وَطيفُكَ
ما جَنينا
غيرَ وَشوَشَةِ الرَّصيفْ!
© 2024 - موقع الشعر