ثقافة الاعجاب بين جماهير الشعر الشعبي والشعر الفصيح

للكتاب: أمل المرزوق،


تختلف ثقافة الاعجاب بين جماهير الشعر الشعبي عن الشعر الفصيح، خصوصاً تلك الجماهير الحية المتواجدة في قاعة الأمسية أو الأصبوحة. ومن منطلق تجربة شخصية نشأت عليها في جمعية الشعر الشعبي، تسيدت لدي ثقافة (التصفيق) لبيان إعجابي بالنص الشعري الملقى أمامي. إذ استشففت خلال حضوري للأمسيات الشعبية داخل وخارج المملكة، بأن الشاعر الشعبي يتوج بطلاً إذا ما حاز على أكبر عدد من المقاطعات التصفيقية أثناء إلقاءه نصوصه، حتى بات رائجاً لدى بعض الشعراء الشعبيين ما يسمى بـ (تأجير) المصفقين. والمصفقين لمن لا يعرفهم مجموعة أفراد اختلف فقهاء الشعر في كونهم محبين أو غير محبين للشعر، إلا أنهم ومع ذلك يحضرون إلى الفعالية الشعرية بدافع الانتماء لعرق أو قبيلة أو طائفة أحد شعراء الأمسية ليصفقوا له بحرارة بين بيت وآخر. فيحصد شاعرهم البطولة في نهاية تلك الفعالية الشعرية.

وقد كنت أحمل تلك الثقافة حتى وقت قريب ماضي، تحديداً عند حضوري لأمسية الشاعر محمود درويش قبل نحو عامين ضمن فعاليات ربيع الثقافة. أذكر بأنني ولأول مرة في حياتي أفترش الأرض بكامل رضاي لأسمع قصائد شعرية، إلا أن حبي لقصائد درويش كانت فوق تفكيري في ذلك الأمر حينها. كنت أجلس على الأرض وبالقرب مني عدد من الشعراء والكتاب الخليجيين، عندما ألقى درويش نصاً قومياً جميلاً حاز إعجابي فصفقت له! وكنت أتوقع حينها من الجمهور أن يصفق كذلك، إلا أنني فوجئت بهم ينظرون نحوي بشيء من الغضب ويصدرون بصوتٍ شبه موحد "هشششش".

اكتشفت لحظتها بأن ماقمت به وما اعتدت عليه من ثقافة إعجاب في الشعر الشعبي، قد لا تنطبق على الشعر الفصيح كذلك. فقد كان جمهور القصيدة الفصيحة منصتاً لنصوص درويش وكأنه يتمعن في معاني الكلمات أو موسيقاها. حيث ظل الجمهور صامتا ً حتى انتهاء الأمسية حين وقف الجميع يعبر عن إعجابه بما استمع إليه في تلك الأمسية. إلا أنني ومع ذلك لم أكن أقتنع بأن ثقافة جمهور الشعر الفصيح تختلف عن الشعبي في إظهار الإعجاب بالنص، حيث صفق الجمهور في نهاية المطاف. ماذا كان سيحصل لو قاطعوا درويش أثناء إلقاءه ليصفقوا له فيصبح بطلاً؟ وقد عزيت الموضوع في النهاية بأنه قد لا يود الجمهور التصفيق فيقطع حبل المشاعر والنص، في أمسية استثنائية.

ولم يكن الموضوع يشكل هاجساً لدي بعد، حتى حضرت إحدى أمسيات الشاعر قاسم حداد. وكنت أجلس في الصفوف شبه الخلفية حينما كنت أستمع لنصوصه الشعرية البراقة. فقد ظللت أقرأ لقاسم كثيراً منذ طفولتي تقريباً، إلا أنني لم أستمع إليه يلقي قصائده حتى تلك الأمسية. أذكر بأنه كثيراً ما استوقفتني عبارات وددت التصفيق لها، ولكنني تداركت نفسي حينما وجدت الحضور في صمت مطبق يحدقون بأعينهم تجاه قاسم وآذانهم تجاه صوته ومشاعرهم تجاه كلماته. فشعرت بأن ما كنت سأقوم به لهو إثم كبير قد لا يغفره لي جمهور قاسم إذا ما كان جمهور درويش قد فعل.

حينها عدت للمنزل وأنا أفكر في اختلاف ثقافة الإعجاب بين جماهير الشعبي والفصيح، ولم أتردد في مهاتفة أحد الإخوة الشعراء الشعبيين لأسأله عن سبب ذلك الاختلاف. وقد أجابني بشيء قد لا أكون مقتنعة به ولكنني سأورده كما جاء على لسانه، حيث قال بأن جماهير الشعر الشعبي تفهم مصطلحات شاعرها وتتفاعل معها فورياً، بينما جماهير الشعر الفصيح لا تستوعب مفردات شاعرها المتكلف إلا بعد قراءة النص وليس أثناء إلقاءه. لذلك فإنهم لا يتفاعلون أو يصفقون للشاعر أثناء الفعالية.

وهنا أعود لنقطة البداية حيث سمعت الشاعر أدونيس وقد قال في إحدى مقابلاته التلفزيونية بأنه يمتلك متابعين وقراء كثر، ولكنه لا يمتلك جمهوراً كبيراً. فأقوم بتأويل ما قاله على أن قصائده قابلة للقراءة وليس للإلقاء الجماهيري على المنصات وخلف المايكرفونات. كما أعود بذاكرتي لمقولة كنت قد قرأتها وتفيد بأن التصفيق هو أفضل وسيلة لإسكات المتحدث!

فأسأل أنا في ختام حديثي أي الثقافتين أصح شعرياً؟ التصفيق أم التزام الصمت حتى النهاية؟

© 2024 - موقع الشعر