كما بدأكم تعودون - أحمد علي سليمان

إن المشيب سكينة وبهاءُ
والعز بادٍ ، ليس فيه خفاءُ

تاجٌ على رأس المعمِّر شامخٌ
وتَهِيج فيه اللحية البيضاء

ورزانة كالنور تقتحم الدجى
وعزيمة - في بأسها - شهباء

ورجاحة في العقل فاضت حكمة
وتعففٌ ، وترفعٌ ، وحياء

وفراسة تزن الأمور بدقةٍ
وتحققٌ يُفضي إليه ذكاء

وتثبتٌ مِن كل شائعةٍ سَرتْ
وتبيُّن كيلا يكون شقاء

وتجمُّلٌ - بين الخلائق - مُخبتٌ
إن التجمّل بالصلاح صفاء

وهدوءُ نفس للرحيل تأهلتْ
إذ ليس - في دنيا الأنام - بقاء

وتمسكٌ بالدين يغمره التقى
إن التمسّك بالرشاد هناء

وتخلقٌ بالحِلم دون تزلفٍ
إن التهوّر خيبة وبلاء

وتسابقٌ نحو المعالي واعدٌ
وإلى العظائم يطمحُ الفضلاء

وتسلحٌ بالحق دون تخوفٍ
وعلى الفضائل يعكفُ الحكماء

وتذرعٌ بعُرى المبادئ ثابتٌ
مهما سما الضُلالُ والجهلاء

وتبخترٌ بالعُمْر يختصر المدى
حتى وإن طعن الحياةَ عناء

وتحملٌ تئدُ المصائبُ نصفه
والنصف إن زار الشيوخ قضاء

وتجلدٌ للعائدات مدرَّعٌ
بقوىً تخاف ظلالها الهيجاء

وتصبرٌ في وجه غائلة الشقا
إن التصبر - في الشقاء - عزاء

وزهادة في العيش مهما قد حلا
والراكنون إلى الدنا جهلاء

كم من شيوخ قدّموا أمجادَهم
ومقدمو أمجادهم عظماء

كم خلفوا عِلماً وآداباً سَمتْ
إن الشرافة حازها العلماء

كم ألفوا شِعراً يطيب سماعه
إذ بعضُهم بين الورى شعراء

كم نقحوا الآداب يسطع نورها
نعم الرموز يصوغها الأدباء

كم عطروا الدنيا بزاخر فِقههم
نعم الهدى قد خطه الفقهاء

شابوا ، وكان العلم رائدَ شيبهم
ولذا فقد عمّ المشيبَ سناء

صاغوا مَشيبهمُ بعذب دمائهم
كي يستفيد الناسُ والأبناء

بذلوا ، وما بخلوا بطيِّب نصحِهم
والنصحُ كم يسخو به الصُلحاء

جمعوا رصيد العمر فيما قد مضى
إذ إنهم في جمعه خبراء

زرعوا ليحصد غيرُهم ثمراتهم
والناسُ - بعد رحيلهم - حُصَداء

وتفضّلوا ، وتصدّقوا ، وتكرّموا
والفضلُ كم يأتي به الكرماء

كم مهدوا سُبلاً لقوم بَعدهم
وبنوْا فعزوا ، ثم عز بناء

كم علموا الأجيال عِلماً نافعاً
وهمُ لما قد علّموا أكفاء

فالعلم أنوارٌ تبلغنا المُنى
لا تستوي الأنوارُ والظلماء

طوبى لمن شابوا ، وبالعلم اهتدوْا
وهمُ - على تعليمه - أمناء

حتى إذا طعن المشيبُ فعاقهم
ماذا يقدّم يا ترى الضعفاء؟

غلبوا ، وحال الشيب دون مصابهم
مَستهُمُ البأساءُ والضراء

والعجز أقعدهم ، وقيَّد سعيهم
فتعثرتْ - في الشيبة - الأعباء

وتزامنتْ أمراضُهم مع ضعفهم
والطب أخفق ، ثم غاب شفاء

واحتار من بصُروا بأسقام الورى
حتى العِقار ثوى ، وخاب دواء

حتى الأطباء انزوتْ قدراتهم
إذ لم تفِد مرضاهُمُ الأدواء

والطب أطرق آسفاً مُتململاً
وبئاره فيهن غِيضَ الماء

والشيخ عاد كما أتى ، يا للأسى
إذ ودعته شبيبة زهراء

والشيب أحنى هامة مرفوعة
غرتْ ركائز عزمها النعماء

فجنى قواها ، ثم هدّد عزها
أواه كم يُستهدفُ الشرفاء

لولا المشيبُ لمّا تقاصر أشيبٌ
عن جوده ، وشبابنا شهداء

والشيب ، لولا الشيب لم يتعللوا
بالضعف ينكر عامداً ما جاؤوا

حتى بصرتُ بشيبنا في حالةٍ
يَرثي لها ولهولها الرحماء

ضعفٌ يصولُ ، وفوق ذلك شيبة
وتنقص يأتي به السفهاء

وتطاولٌ يكوي الضمائرَ جمرُه
فوق الرؤوس يصبّه اللؤماء

وتهكمٌ عن كل أشيبَ لم يزلْ
يُزري به وبشِيبه الثقلاء

وتندرٌ بالترهات مُغلفٌ
قد لفقته بصائرٌ عمياء

وتخرصٌ بالشائعات مُبطنٌ
يُدلي به - في الفتنة - الحُقراء

أينال من أشياخنا شباننا؟
أوَهكذا يتخبّط العقلاء؟

قدمتَ ماذا يا شباب إلى الورى؟
يا من كوتك - بنارها - الفحشاء

يا من هبطت إلى الحضيض ، ولم تزل
حتى استزلك - بالخنا - الأعداء

لم تمتثلْ أمراً يبلغك المُنى
فارحم أناساً بالكرامة باؤوا

واخفض جناحك للكِبار ، وكُن لهم
عوناً ، كفى ما عاين الكبراء

يوماً تسام كما تُسِيمُ ، فلا تكن
مُتجبّراً ، إذ إنهم آباء

والكأس دائرة ، ودَورك قادمٌ
فامهد لنفسك ، إنه الإقصاء

واعلم بأنك راحلٌ ومُعذبٌ
وتحولُ بينك والهنا الأخطاء

واستقرئ التاريخ ، كم من عبرة
قد خطها كُتابنا النجباء

فاعرف مصيرك قبل موتٍ مُحدق
لا ينفعُ الإنسانَ فيه بكاء

وتفقدِ النفسَ التي لا ترعوي
وتنال ما قد تشتهي وتشاء

أنت الضحية إن أطعت غرورها
وفطامُها - عما تريدُ - وقاء

© 2024 - موقع الشعر