مقامات مطعمة بالشعر - ماجد الراوي

مطرب عصري
دعاني صديقي إلى حفلهْ ، لأسمع من موشحات قفلهْ ، فقصدتُ مجلس الإيناس ، لأسمع الشدوَ مع الناس ، زهور وطبول وكراسي ، ومزامير تصدح في راسي ، نظرت نحو الباب ، منتظراً قدوم زرياب ، خلت أني في العصر العباسي ، أسمع المعاني ، من صريع الغواني ، وأتلذذ بأشعار النواسي .
وفجأة ومن بين صفوف الناس ، قفزشخص كالنسناس ، كأنَّ شعره غابهْ ، قد ربطه بعصابهْ ، متصنعاً وجد الصبابهْ ، وراح يقفز للأعالي ، ويغني الليالي ، ببنطاله الزهري ، مثل الحمار الشهري ، وقميصه البرتقالي ، وصاح صوتاً كالبوق ، توقف له أهل السوق ، وشهق شهقهْ ، في إثرها نهقهْ ، وجاد باللحن المسروق ، فلم تحتمل أذناي ، صوت الطبول والناي ، صرخت أين زرياب ؟ قالوا : مات من أحقاب ، هرعت نحو الباب ، قيل لا تزعجنا إسمع مطرب الشباب .
قلت له : كفى يا هذا ، فنادى الجالسون لماذا ؟ هل تعيدنا إلى الربابهْ ؟ أم غناء أهل الغابهْ ؟ قلت : هذا الطرب لكم أدع ، إن الطيور على أشكالها تقع ، وأنشدت :
إذا غنّى أبو عمرٍو مقاماً---- تمنى مسمعي لو كان أطرشْ
إذا ما راحَ يُسمعنا قراراً ---- كأنَّ بحلقهِ الشوفان يُجْرَشْ
وإن عاف القرار إلى جوابٍ ---فما من مسمعٍ إلاّ تخرَّشْ
أكادُ أهيجُ من غضبي عليهِ- --فأصْبحُ مثل ضرغامٍ تَوحَّشْ
فأكسرُ طبلَهُ والبوقَ سُخطاً---- وأتركُ وجههُ لوحاً مُخَرْبَشْ
 
 
* * *
 
الشخص الذي نما عرضاً
عمرو بن حمدان ، عرفته منذ زمان ، كان نحيفاً كعود الزل ، خفيف الظل إذا حل ، وكان من شظف المعيشه ، إذا مشى طار كالريشه .
كان بالقليل يقنع ، وهو شهم لطيف ، يحب الحديث الشريف :
{ نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإن أكلنا لا نشبع } .
كنت إذا ألقاه ، رأيت الصدق في محياه ، حلو البهجه ، صادق اللهجه ، يدفع من باراه بالحجه ، وفي ذات صباح ، بعدما الديك صاح ، وباتت الشمس أعلى من الرماح ، جاءه صوت البشير ، بكتاب جيد التحبير ، فطار طائر سعده إلى اليمين وكان إلي اليسار يطير .
علته فرحة غامره ، كيف لا وقد تسلم مكاناً هادئاً في الدائره ، لا شغل له سوى شرب الشاي ، والاستماع إلى الناي ، يأكل الفستق ، ويرمي جاره مازحاً بالبندق ، يحشو فمه بالموالح ، فإن سلمت عليه لا يستطيع أن ينطق، ولا يكاد يصافح.
وعاش فترة في أمان ، وغاب ومرّ زمان ، فلاقاني وبطنه تكاد تمس الأرض ، إذ طوله قد توقف ونما منه العرض ، وزنه قد زاد ، فأصبح كالمنطاد ، وكان كالفنن المياد ، فقلت مازحاً :
يا صاحبي مالي أراكَ مُرَبَّعاً ----- الطولُ منهُ مُشابهٌ للعَرْضِ
وإذا ضربنا عرضَهُ في طولِهِ----- ينسد مابين السما والارض
فإذا رأيتُكَ نائماً أو قاعداً ------ أو قائما أو في الفيافي تمضي
فبأيِّ حالٍ لستَ غَيْرَ مُرَبَّعٍ----- ولنفسِ شكلٍ في النتيجةِ تُفْضي
 
* * *
 
صاحب السيارة
 
امتلك صديقي أبو زيد سياره ، بعدما كان راكباً نعليه في الحاره ، فشمخ بها شموخ الطاووس ، كفارس من حرب البسوس ، رافعاً هامته كالحِقْفْ ، أنفه يكاد يمسُّ السقف ، ناصباً صدره كالعقاب ، كأن من حوله الذباب ، أو أنه جبل من تبر وغيره أكمة من تراب .
أدار مقود السياره ، من حولي بمهاره ، ( سقى الله أياماً كان يركب الحماره ) رآني راكباً دراجه ، فترك وراءه عجاجه ، وراح وسط الزحام ، ولم يلق السلام ، كأنه هرقل وأنا راعي الأغنام .
كان قديماً لا يحب المتكبرين ، ويصفهم بالشياطين ، له في المثاليات أشواط ، كأنه منسوخ عن سقراط ، واليوم إذ ركب السياره ، غير رأيه بل مئة وثمانين درجة أداره .
فرحم الله المتنبي أبا محسد ، وهو في التراب موسد ، حين قال ، قولةً لا تطال :
والظلمُ من شيم النُّفوسِ ومن يكنْ
ذا عِفَةٍ فلعلةٍ لا يَظْلمُ
عندها عجبت من الزمان ، كيف يغير الإنسان ، فأدرت مقود الدراجه ، ضاحكاً من هذه الفجاجه ، وقلت :
أبا زيدٍ عراني اليأسُ لمّا ----- لَمَحْتُكَ شامخاً بطريقِ بيتي
فأنْ تَشمَخْ بمركبةٍ تهادى ---- وإنْ تَرْكَبْ على الفَرَسِ الكُمَيْتِ( )
فإنَّكَ بعد أن تعلو ستهوي ----- وتُمسي دون فِعْلٍ مثلَ مَيْتِ
وتصبحُ نملةً زحفتْ بأرض -----فأخشى أن يَدوسَكَ ( بِسْكلَيتْي )(
 
* * *
 
المطعم المتحرك
زيدٌ أبو حسام ، يجلس في المحافل ، ولا يحب الكلام ، إلاّ عن الطعام ، وزمرة المآكل ، من المحاشي والثريد والرز والفلافل .
يزور مجالس الأصحاب ، فإن تحدثوا عن الحساب ، اتجه نحو الباب ، إلاّ عند حساب ، سعر مائدة الكباب .
وإن تكلموا عن الجغرافيه ، طارت منه العافيه ، إلاّ عند ذكر البرتغال ، فهي تذكره بالبرتقال .
يحب من حديث الأمم البائده ، كل ما فيه فائده ، من تحضير طعام أو ترتيب مائده ، ويحب من البطولات ، أحاديث انتصاره على المأكولات ، كحديثه كيف جاء كالملهوف ، وأكل نصف الخروف ، وكيف قرع صحابه الطبول ، عند قدر الفول .
فرحم الله الشاعر الشهير ابن عطية جرير عندما قال :
يا أكثر الناس أصواتاً إذا شبعوا
وألأم الناس أخباراً على الزاد
 
وهو يقدر الأصدقاء ، حسب أنواع الغذاء ، فصديقه أبو حليمه ، ذبح له نعجة عظيمه ، وهو خير من أبي حبيب ، الذي دعاه إلى رز وحليب .
روى لي مرة عن دعوة كريمه ، فأجبته بأبيات على البحور القديمه :
أكلتَ فطائراً وأكلتَ فولاً ---- وتأكلُ دائماً تِبْناً وترعى
وكمْ صادفتُ في عُمري عُجولاً ---- فكانتْ منكَ يا معلوفُ أوعى
وصَحبُكَ تأكلُ التمساحَ حياً ----- وفيلاً بعده وتظلُّ جَوْعى
وأنتَ وإنْ أكلتَ قُدورَ طَيٍّ---- أرى الفئرانَ أكثرَ منكَ نَفْعا
 
 
* * *
 
جادك الغيث إذا الغيث همى
 
انهمر الغيث من السماء ، فصار ثوبي يعصر ماء ، وصار من بجنبي كأنه وزه ، ترتدي ( كنزه )( ) ، وكثرت في الشوارع البرك ، فالناس كحمام في شرك ، فهذا خندق ، وهذه جوره ، وهذا في الغدير يزلق ، فيمسي مضحك الصوره .
شارع مسدود ، وحفرة وأخدود ، يا له من مشهد مشهود ، كأنه فيلم من هوليود ، شاهدته فجنحت إلى الدار ، لأنظم الأشعار :
إذا مَشَيْتَ بدير الزور كُنْ حَذراً ----ففي الشوارعِ كمْ كَهفٍ وكمْ خَندَقْ
وفي الدروبِ وُحولٌ كالبحارِ طغتْ ---- لا تمضِ يا صاحِ إلاّ راكباً زورقْ
والبسْ رداءً رمادياً به قِصَرٌ ----فقد تخوضُ ببحر الطينِ أو تزلقْ
كم لابسٍ بُرْدَةً أمستْ مموّهةً ---- من رَشقِ مركبةٍ جاءتْ من المفرقْ
جاري الذي عندهُ سيارةٌ يئستْ ---- من فَرْطِ ما قيلَ هذا شارعٌ مغلقْ
يقولُ يا ليتني قد كنتُ ممتطياً ----- نعامةً رِجْلُها في الطينِ لا تعلقْ
شوارعٌ قد حلا استثمارُها بِرَكاً ----- للبطِّ أو شاطئاً يمشي به اللَّقلقْ
كان الفُراتُ بجنبِ الدَيْرِ موقعُهُ ----- والآن كلُّ طريقٍ تحتهُ يغرقْ
 
 
* * *
 
الخباز المتغطرس
 
استيقظتُ متأخراً من النوم ، بعد أن توزع في الأرض القوم ، وتسللتُ إلى فرن الحاره ، والشمس أعلى من المناره ، خرجتُ من طرف الزقاق ، فسدّ أُذني البعاق ، حشودٌ كالبحر إذ يهيج ، فيترك الأفق أكدرْ ، أو جموع الحجيج ، تصيح الله أكبر ، صاحب الفرن أمام الناس ، يتصرف بذكاء إياس ، فمرة يتصنع الوقار ، ومرة يهيج كالنار ، فيسكت كلّ ثرثار .
صحيح أنه كالفار ، يزقزق مثل الخفاش ، والثغر كأنه ( دفّاش ) ، لكنه قبلة الأنظار ، تهفو إليه النُظَّار ، كان اسمه أبا زيد ، ما عليه في الوقاحة قيد ، شكله شكل الخناس ، مهجن بين القط والناس ، تترجاه الحضر والأعاريب ، وهو شماخ (كسنحاريب ) ، يكادون يقولون له :
وإنك شمسٌ والأنامُ كواكبٌ
إذا طلعتَ لم يَبْدُ منهنّ كوكبُ
قلت : إذا بقيت أنظر إلى وجهه المنحوس ، ستغرب الشمس ، وينسل كالنمس ، وأرد إلى جيبي الفلوس ، فكتبت على الرقعه ، أبياتاً باهية الطلعه :
خبّازَ حارتنا يا خيرَ خبَّازِ----- يا من عِنادُكَ أعْيى داؤهُ الرازي
أمام فُرنِكَ تلقى النّاسَ دائخةً ------كأنَّها النملُ لما رُشَّ ( بالكازِ )
هاجوا ونادوا بصوتٍ شابَهُ شَجَنٌ--- كأنَّما وقْعُهُ عَزْفٌ من ( الجازِ
خبزي كَخُبزِكَ يا خبّازُ تَخْبِزُهُ-----خبزتَ خُبْزَكَ فاخْبِزْ بعضَ أخبازي
فتبسم من ثغره غير الأليف ، وباعني عشرين رغيف .
* * *
 
طبيب أسنان
آلمتني بعض الأسنان ، ليلاً والحي وسنان ، فلم أغف ذلك المساء ، وبقيت أنظر إلى السماء ، وكأني سمكة في ماء .
وقد تسلحت بصنوف الصبر ، في ليلة كعذاب القبر ، صباحاً جنحت إلى الآسي ، شاكياً ألمي القاسي ، لاعناً وجود الأسنان في راسي ، وعند الطبيب إذا بطابور من الناس ، منتظم كعقد ألماس ، بعضهم ينتظر الفرج ، وآخرون على الدرج ، ولقد ظفرت باللقاء ، بعد صبر وشقاء .
وضع الطبيب بيده الريشة ، فلعنت هذه العيشة ، وراح يفر بالسن ، وعظام رأسي ترن ، وبعد جهد وعلاج ، لإصلاح الجذر والتاج ، توقف الطبيب وقال ، بحسرة وانفعال ، هذا السن لجاره شبيه ، أردت حفره فحفرت الذي يليه ، خطأ ما عملت ، سأصلح ما فعلت ، وراح يفر بالسن ، وضلوع صدري تئن ، فأحجم حيناً
وقال ، بنبرة وانفعال ، ما هذا الحظ اللعين ، أردت السن الأيسر فذهبت إلى اليمين ، لعن الله الشياطين ، فتذكرت أبياتاً قلتها قديماً :
ذهبتُ إلى الطبيبِ ذاتَ يومٍ---لأشفي عندهُ آلامَ ضرسي
فهدَّمَ كلَّ أسناني كأنّي----حضرتُ حروبَ ذبيانٍ وعبسِ
فقلتُ له : هنيئاً يا طبيبي ----ملكتَ دراهماً وملكتَ ( تكسي )
ولكن في علومِ الطبِّ حقاً ----تشابهُ أطرشاً في يومِ عُرسِ
© 2024 - موقع الشعر