أَلا هَل دَرى الداعي المُثَوِّبُ إِذ دَعا - ابن زيدون

أَلا هَل دَرى الداعي المُثَوِّبُ إِذ دَعا
بِنَعيِكَ أَنَّ الدينَ مِن بَعضِ ما نَعى

وَأَنَّ التُقى قَد آذَنَتنا بِفُرقَةٍ
وَأَنَّ الهُدى قَد بانَ مِنكِ فَوَدَّعا

لِرُزئِكِ تَنهَلُّ الدُموعُ فَمِثلُهُ
إِذا حَلَّ وَدَّ القَلبُ لو كانَ مَدمَعا

لَقَد أَجهَشَ الإِخلاصُ بِالأَمسِ باكِياً
عَلَيكِ كَما حَنَّ اليَقينُ فَرَجَّعا

وَدُنيا وَجَدنا العَيشَ في غَفَلاتِها
طَريقاً إِلى وِردِ المَنِيَّةِ مَهيَعا

نُعَلِّلُ فيها بِالمُنى فَتَغُرُّنا
بَوارِقُ لَيسَ الآلُ مِنها بِأَخدَعا

أُصِبنا بِما لَو أَنَّ هَضبَ مَتالِعٍ
أُصيبَ بِهِ لَاِنهَدَّ أَو لَتَضَعضَعا

مَنارٌ مِنَ الإيمانِ لَم يَعدُ أَن هَوى
وَحَبلٌ مِنَ التَقوى وَهى فَتَقَطَّعا

وَشَمسُ هُدىً أَمسى لَها التُربُ مَغرِباً
وَكانَ لَها المِحرابُ في الخِدرِ مَطلَعا

لَئِن أُتبِعَت مِنّا غَمامَةَ رَحمَةٍ
لَقَد ظَلَّلَت ذاكَ السَريرَ المُرَفَّعا

سَريرٌ بِأَملاكٍ وَزُهرِ مَلائِكٍ
إِلى جَنَّةِ الفِردَوسِ راحَ مُشَيَّعا

لِتَبكِ الأَيامى وَاليَتامى فَقيدَةً
هِيَ المُزنُ أَحيا صَوبُهُ ثُمَّ أَقشَعا

أَضَلَّهُمُ فِقدانُها فَكَأَنَّما
أَضَلَّت سَوامُ الوَحشِ في الجَدبِ مَرتَعا

مُسَبِّحَةُ الآناءِ قانِتَةُ الضُحى
ثَوَت فَزَوى مَغنى التَأَوُّهِ بَلقَعا

تَبيتُ مَعَ الإِخباتِ مُسعَرَةَ الحَشا
تَقِيَّةَ مَن يَخشى إِلى اللَهِ مَرجِعا

إِذا ما هِيَ اِستَوفَت مِنَ البِرِّ غايَةً
تَأَتَّت لِأُخرى لا تَرى تِلكَ مَقنَعا

كَأَنَّ قَضاءَ الواجِباتِ مُحَرَّجٌ
تَقَبُّلُهُ إِلّا بِأَن تَتَطَوَّعا

أَصَرفَ الرَدى لَو أَنَّ لِلسَيفِ مَضرِباً
لَما رُعتَنا أَو أَنَّ في القَوسِ مَنزَعا

فَلَو كُنتَ إِذ ساتَرتَ رامَ مُجاهِرٌ
ذِمارَ الهُدى كانَ المَحوطَ المُمَنَّعا

إِذاً لَثَناهُ الجَيشُ مِن كُلِّ أَليَسٍ
يُشايِعُ قَلباً في الحِفاظِ مُشَيِّعا

وَمُعتَضِدٌ بِاللَهِ يَحمي ذِمارَهُ
فَلا سِربَ يُلفى في حِماهُ مُرَوِّعا

وَلَكِن عَرَرتَ المَلكَ مِن حَيثُ لا يَرى
فَلَم يَستَطِع لِلحادِثِ الحَتمِ مَدفَعا

يُغيظُ العِتاقَ الجُردَ أَلّا تَرى لَها
مَجالاً فَتَعنو في المَرابِطِ خُشَّعا

وَتَأسَفَ بيضُ الهِندِ أَن لَيسَ تُنتَضى
وَسُمرُ القَنا أَلّا تُهَزَّ وَتُشرَعا

لَئِن ساءَكَ الدَهرُ المُسيءُ فَلَم يَكُن
بِأَوَّلِ عَهدٍ واجِبَ الحِفظِ ضَيَّعا

شَهِدنا لَقَد طَرَّزتَ بُردَ جَمالِهِ
وَقَلَّدتَهُ عِقدَ البَهاءِ مُرَصَّعا

وَما فَخرُهُ إِلّا بِأَن كانَ مُصغِياً
لِأَمرِكَ إِن نادَيتَ لَبّى فَأَسرَعا

أَتى العَشرَةَ العُظمى فَهَل أَنتَ قائِلٌ
لَهُ حينَ أَشفى مِن كَآبَتِهِ لَعا

وَها هُوَ مُنقادٌ لِحُكمِكَ فَاِحتَكِم
لِتَبلُغَ ماتَهوى وَمُرهُ لِيَصدَعا

لَعَمرُ الَّتي وَدَّعتَ أَمسِ مُفارِقاً
لَقَد وَرَدَت حَوضَ السَعادَةِ مَشرَعا

تَمَنَّت وَفاةً في حَياتِكَ بَعدَما
حَشَدتَ لَها الآمالَ مَرأىً وَمَسمَعا

فَوَفَّيتَها مالَم يَدَع لِضَميرِها
إِلى غايَةٍ مِن بَعدِهِ مُتَطَلَّعا

خَفَضتَ جَناحَ الذُلِّ في العِزِّ رَحمَةً
لَها وَعَزيزٌ أَن تَذِلَّ وَتَخضَعا

تَروحُ أَميراً في البِلادِ مُحَكَّماً
وَتَغدو شَفيعاً في الذُنوبِ مُشَفَّعا

عَزاءٌ فَدَتكَ النَفسُ عَزمَ مُسَلِّمٍ
لِمَوقِعِ أَمرٍ لَم يَزَل مُتَوَقَّعا

مَتى ظَنَّتِ الأَيّامُ أَنَّكَ جازِعٌ
أَوِ اِستَشعَرَت في فَلِّ صَبرِكَ مَطمَعا

فَما اِربَدَّ وَجهُ الخَطبِ إِلّا لَقيتَهُ
بِصَفحَةِ طَلقِ الوَجهِ أَبلَجَ أَروَعا

وَما كُنتَ أَهلاً أَن يُصيبُكَ حادِثٌ
فَتُصبِحَ عَنهُ مُقصَدَ القَلبِ موجَعا

فَلَولاكَ لَم يَسمَح مِنَ الدَهرِ جانِبٌ
وَلا اِهتَزَّ أَعطافاً وَلا لانَ أَخدَعا

فَأَنتَ الَّذي لَم يَنتَقِم غِبَّ قُدرَةٍ
وَلَم يُؤثِرِ المَعروفَ إِلّا لِيَشفَعا

مَتى تُسدِ نُعمى قيلَ أَنعَمَ مِثلَها
يُقَل جَلَلٌ حَتّى إِذا قيلَ أَبدَعا

وَإِن يَسَلِ العافونَ جَدواكَ يُعطِهِم
جَوادٌ إِذا لَم يَسأَلوهُ تَبَرَّعا

وَيُغرى بِتَوكيدِ الإِساءَةِ مُذنِبٌ
فَيَلقاكَ بِالإِحسانِ أَغرى وَأَولَعا

خَلائِقُ مُمهاةُ الفِرِندِ كَأَنَّها
حَدائِقُ رَوضِ الحَزنِ جيدَ فَأَينَعا

تُنافِحُها مِنها أَحاديثُ سُؤدَدٍ
تَخالُ فَتيتَ المِسكِ عَنها تَضَوَّعا

تَغَلغَلُ في الآفاقِ أَسرى مِنَ الصَبا
وَأَشهَرَ مِن شَمسِ النَهارِ وَأَسرَعا

فَلَو صَرَفَت صَرفَ المَنونِ جَلالَةً
لَكُنتَ بِمَحيا مَن تَوَدَّ مُمَتَّعا

فَلا زِلتَ مَمنوعَ الحِمى مُسعَفَ المُنى
إِذا كانَ شانيكَ المُصابَ المُفَجَّعا

وَدُمتَ مُلَقّى أَنجُمِ السَعدِ باقِياً
لِدينٍ وَدُنيا أَنتَ فَخرُهُما مَعا

© 2024 - موقع الشعر