أغنية الغياب - فاديا غيبور

إلى الشاعر الراحل نزار قباني
 
من أينَ تبتدئُ البحارُ بكاءَها
وتعانقُ الأنهارَ صاخبةَ الجهاتْ؟!
من أيِّ منعطفٍ يطلُّ الحبُّ مفترشاً
رسائلَ عشقنا الورديِّ، صبوةَ عمرِنا الأولى
وعلى جبينِ دمشقَ يتَّكئُ الحزينُ الياسمينْ
يبكي ويهطلُ ناعماً
كي يرتمي مطراً على الجسدِ المسافرِ
نحو أغنيةِ الغيابْ
هو ذا يعود مكللاً بحروفه، بقلوبنا الولهى،
بأسرابِ الحمامْ
هوَ ذا يعودُ، فلا تفكّوا عن يديهِ
قيودَ حبهما لأوراقِ الدفاترْ
فالحبرُ يزهِرُ في مرايا الأغنياتْ
والضوءُ يبحثُ عن حروفٍ طازجاتٍ
كالصباحِ المنتظرْ...
لا تأخذوا منهُ الدواةَ فقد أتى
كي يرسمَ الدنيا خلاصاً في تفاصيلِ الكلامْ
هذا الذي اختصرَ الوجودَ قصيدةً
تدعى: (شآمْ)
سيفاً موشّى بالعروبةِ واخضلالِ الوردِ
أنفاسِ الخزامْ
هذا الذي افتتحَ المدائنَ بالأناشيدِ المضيئةِ
بالتورُّدِ والتهجُّدِ.. واليمامْ
لا تسرقوهُ مِنَ الغناءِ فقد أتى
واستنفرَتْ كلُّ العصافيرِ القصائدَ للغناءْ
ومضَتْ تغني لاخضرارِ الذكرياتِ على السفوحِ
لقبلة الحبِّ البريئةْ..
منذا يمرُّ به على بردى
وقد شهدَ البداياتِ الندية؟!
منذا يبلسِمُ وجنتيهِ بدفءِ أغنيةٍ
تعرَّتْ في مطالعِها القصائدُ والوجوهُ اليعربيّةْ؟!
لا ضيرَ في أن تسألوا عنْ طفلةٍ سمراءَ
غناها زماناً فانتشتْ
وتبرعمتْ أملاً جديداً..
لم تزلْ بيروتُ تذكرُهُ وتذكُرُ كيف غابتْ
ذاتَ فجرٍ في الضبابْ
لم توقظِ الأزهارَ والبنَّ المهيّلَ
يومَ فاجأها الغيابْ
أوَ كان يحلمُ أن يلاقيها على أطرافِ عاصفةٍ
ليقتسما معاً أحلى تباشير الربيعْ
أم كانَ يعلمُ أنَّ بلقيسَ الجميلةَ
سوف تنهضُ ذات حبٍّ
كي تعودَ إلى فضاءِ الوقتِ
مثقلةَ الأصابعِ بالحنينْ؟
يدُها تلمُّ الياسمينَ عنِ الرّصيفِ المُشتهى
وتعدُّ قهوتَهُ، ترتبُ ما تبقى من جنونِ الشعرِ عاشقةً
وترحلُ في تفاصيلِ النخيلْ
وتكادُ تهمسُ:
فلنعجِّلْ يا حبيبي بالرَّحيلْ
الحزنُ متسعٌ كصدرِ دمشقَ والهةً
تمشطُ شعرَها بالصبرِ والأحلامِ حتى
تلتقي الطيرَ المسافرَ عائداً نحوَ الوطنْ
والنهرُ يفتَحُ ماءَهُ للزقزقاتِ الوارفةِ
وعلى المآذنِ يلتقي صوتُ المؤذنِ والهديلْ
الحزنُ متسعٌ كصدرِ دمشقَ والهةً
وقلبُكَ متعَبٌ
فلِمَ استبقتِ الأغنياتِ إلى البنفسجِ
واقترفتَ المُستحيلا؟
هيَ ذي قصائدُنا تنامُ اليومَ
واجمة كثيراً أو قليلا
هيَ ذي خيولُ الفاتحينَ تهبُّ
من صمتِ الرواياتِ القديمةِ تملأْ الساحاتِ
حمحمةً.. صهيلا
وعلى ثراكَ تناثرُ الأزهارُ باكيةً
وترتعشُ الفصولْ
يا مورقَ الأحزان ها قد عدتَ تواقاً
إلى بعضِ السكينةْ
ودمشقُ ثكلى تلتقيكْ
قد زهَّرَ النارنج والكبادُ في الدورِ الحزينةْ
لو كان يقدرُ.. يفتديكْ
أنتَ الذي عاشتْ دمشقُ بحُورِها
وبحَوْرِها.. في ناظريكْ
فانعمْ بنومكَ ها هنا..
كي تنهضَ الكلماتُ من موتٍ
مورّدةً بحبّكَ
للأزقةِ والشوارعِ، للمدارسِ والبيوتْ
فانعمْ بنومِكَ ها هنا
من كانَ مثلكَ..
لا يموتْ
وانعمْ بنومِكَ ها هنا
من كانَ مثلكَ..
لا يموتْ
 
***
© 2024 - موقع الشعر