يا أبتي إني رأيت

لـ الطاهر الصوني، ، في غير مُحدد، آخر تحديث

يا أبتي إني رأيت - الطاهر الصوني

الآن يا أبتي بلغت الأربعينْ
حين اعتنقنا و افترقنا...
كنت أبحث
في المطرْ
عن وجهك المسكونِ بالحزن الجميلْ
في جبتي أشتات وهم عابر
و الطيف فرْ
كل الدفاتر مُزِّقت
وقصائدي شُِنقت
و هام الحرف بين الطين،
يسكب دمعه،
بين الحفرْ
و مضت سنونٌ و الثرى يرثيكَ
يعلن كل يوم أنني لكَ
أنتظرْ
لازال في قلبي بقايا من رؤاكْ
و الحزن يسكنني،
وملح الريح
في جسدي
انتشرْ...
فيك احترفت الجوع يا أبتي،
جربت في يدك المشانق،
و ارتشفت الموت منك
أقمت ألتمس الخبرْ...
ما من خبرْ...
وحدي هنا، و الغيم سافر
في ضلوعي وانتهى
ما كان منكْ
حتى الأثرْ
مات الأثرْ
و لم تذرْ
تلك المراثي جبها،
فغدت تعانقني ... أعانقها
فيلتف الشجرْ
من حولنا، يبكيك يا وجع
المواويل الحزينة
و افترقنا ...
فانتحرْ
و مضت سنون يا أبي،
و نوارس البحر اختفت
تركتك وحدك ...
ما الخبرْ ؟
بيني و بينك خيط دخان
قواميس وقرطاسٌ
يهيم بلا عبرْ
صور تنام على رصيف دفاتري
أشلا ء حلم عابرٍ
أمر قُدِرْ
عيناك يا أبتي رعت بهما الرياح هيامها
والخوف مسهما
فلم أرَ منهما إلا بقايا من صورْ
تبكي كطفل، تلعن الزمن
الذي أسسته بيديك
يا أبتي هنا،
قبل السفرْ
و تقول في صوت خفي منفطرْ :
" يكفي سيسمعنا الخليفة يا بنيْ
أو تخبر الحيطان سيدنا
بما عنا صدرْ
يأتي على فرس و في يده المدى
و الريح تحمله فيقتلنا ...
و يرمينا لوحش
مستعرْ "
و توقفت شفتاك، ثم انساب قولك يا أبي:
"هم يحملون الموت يا ولدي إلينا
كل يوم يشربون دماءنا
لم يتركوا شيئا ...
إلا الدمارَ
المنتشرْ "
قد كنتُ يا أبتي صغيرا حينها
و الجوع مزقني و صوتك
قد وقَرْ...
في القلب يا أبتي
وقرْ
أرعبتني ... لكنني لم أنس جوعي
" جعت يا أبتي"، فتعطيني رغيفا،
" كل بنيْ "،
أبتي سئمت الخبز بلَّلَه الردى
جوعي ، أبي،
قد جاوز الحدَّ
انتهى للمستقرْ
أبتي سئمت الانتظار،
و النورس البحري ما عاد،
اختفى
قد أعدموه
أو انتحرْ
" أسكت بنيْ، فا لغول خارج كوخنا،
يترصد الأطياف
بالحي القديم المنقعر
حرس الخليفة يرقبون تحركات شفاهنا
الحائط الخشبي يهوي نحونا
أنظر إليه بنيَّ، يسمعنا...
ملابسنا تطاردنا،
و قطة جارنا،
و الجار قد يوشي بنا،
و الأرض يا ولدي،
و أمك و الهواءُ...
فليث أمك لم تلدك بنيْ، و لم تحملك في أحشائها
يا ليثها ولدتك بنتا تغزل الصوف الجميلَ
لعلنا نهدي الخليفة منه أقمصة
تريحه من عناء هيامنا
فهو الخليفة يا بنيْ ...
و المنتصرْ
أبنيَّ يكفي ...قد تعبث
ستجلب الأشباح
يا ولدي إلينا
وحدنا
سنموت كي يحيا الخليفة في بلاد تحتضر…
أشباحه ، ولدي، تطاردنا
ُتذَبِّحُنا
و تستحيي النساءَ، تقتِّل الأطفالَ
تنشر رعبها
أين المفرْ
هيَّا بنيْ ...
و أخذتني للشاطئ الرمليِّ
ثمَّ وأدْتني و تركتني
بين الحفرْ
كانت هناك، أبي، طيور النورس البحري
في كنف السماءِ، رأتك تنبش حفرة،
و رأتك تحضنني، و تبكيني
ودمعك منهمرْ
و البحر يرسم حولنا طوقا يزيننا
و يبكي صامتا
و الرمل يبكي
و الحجرْ...
و دفنتني يا والدي تحت الثرى
وارََيْت حلمي، لست وحدي
قد ملأنا الأرض يا أبتي
سيأتيك الخبرْ
و ستنهض الأجداث من هذي الحفرْ
كي تصنع التاريخ
تبعث في المدى
حرية حمراء ...
في الكون الفسيح ستنتشرْ
يا والدي بيني و بينك حبك الأحلى ...
أبي، عشرون عاما لم تهاجر كالنوارس
بل بقيت هنا على قبري ...
هنا بي تفتخرْ
ماتت طيور الهمس و انتحرت
على شفتيك أحرف رؤيايَ
انتهت لمَّا انْصهرْ
ما كان منك من الكلام
على رصيف الصمت
تنشده...
أغانيك التي أدمنتها، واليوم تنهض من سباتك
كي تبارك طفلك المسكون بالأحلام،
في يدك الندى، وسنابل الريح اليتيمة،
و انتكاسات السنينْ
و جلسْتَ قرب القبر تبكي يا أبي
و جرت دموعك كالمطرْ
في كل حدب،
فانتبهتُ ...
إذِ الحياة تدب في جسدي
وهمس الريح يقرئني
التجلي المنتظرْ
بيدي اليمين حملت أحجاري
بيدي اليسار وريقات
فتحت يدي ...
فطارت نحو شامٍ ذبَّحوه
أبي ... لتعلن للمدى
بدء اندحار الخوف
من وحش تصاغر ...
فاندثرْ
© 2024 - موقع الشعر